المنهج في الإسلام قائم على نموذج معرفي واضح القسمات محدد المعالم، لا نظير له بين النماذج المعرفية في الأديان المحرفة، أو المذاهب الأرضية، وهذا النموذج المعرفي هو: الرؤية الكلية الإسلامية الشاملة لكافة الحقائق والأشياء، تجلت في المفاهيم العقدية التي أجابت بحق عن أسئلة الإنسان الكبرى حول الخالق والمخلوق، وحول الحياة والمصير، وحول الوظيفة والمنهاج، فعرف المسلم من خلالها من هو، ومن خلقه، ولماذا خلق، وما مصيره، ثم عرف علاقته بهذا الخالق العظيم، وأدرك دوره في رحلة الحياة، وأجاب هذا النموذج عن كافة أسئلة الفلسفة التي ضل الفلاسفة كثيرا في الجواب عنها.
ومن هنا امتلك المسلم الأجوبة الرئيسة التي شكلت الملامح الكبرى للمنهجية في حياته، فعلم أن الله خالقه: إنِّما إِلهُكُمُ الَّله (طه: 98)، ولم يُؤَلِّه العقل؛ لأنه علم أنه إحدى الجوارح القاصرة التي تنتهي إلى حد كما ينتهي البصر والسمع وغيرهما إلى حد، وعلم أن مقامه أمام هذا الخالق هو مقام العبودية: يَا عِبَادِ فاتَّقون (الزمر: 16)، وأن العبودية هي صفته ووظيفته: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56)، وعرف كذلك مكانته بين المخلوقات: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء: 70). وفَهِم أن الكون مخلوق مسخر له ليستعين به على التكليف: اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الجاثية:12-13). وأدرك أن عليه طلب الحلال الطيب، واجتناب الخبيث من كل شيء يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (الأعراف:157)، واكتملت لديه كذلك معالم المنهجية الراشدة بعيدا عن التيه الفكري فعرف أنه لا بد وأن يعيش وفق شريعة ربانية بعيدا عن الخبط والتيه ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الجاثية: 18) ثم فهم أن من مقاصد وجوده الإعمار لا الإفساد هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها (هود: 61) والله لا يحب الفساد (البقرة: 205)، وتعلم من خلال المنهج أن الناس جميعا إخوة في الأصل الإنساني أنشَأَكُم مِن نَفسٍ وَاحِدة (النساء: 1)، وفهم أن العدالة فوق الانتماء «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (صحيح مسلم)، ثم كان حاضرا دائما بين عينيه ذلك المصير المحتوم إنَّ إلى ربِّك الرُّجعى (العلق: 8)، وهناك لكل سعي جزاؤه: فريق في الجنة وفريق في السعير (الشورى: 7) فضبط تصرفاته وهذب أعماله، واستعد للخلود الأبدي في الدار الآخرة.
تلك هي معالم الرؤية الكلية التي شكلت نموذجا معرفيا راشدا، رتب عقل المسلم وفكره، ونظم حركاته وسكناته، وحدد مقاصده وغاياته، وهذب من طبعه وعاداته، وأصلح دنياه وآخرته.
فأصبح قادرا على التفكير المنهجي، والعمل المنهجي، والبناء المنهجي، والخلاف المنهجي وهكذا في كل شؤونه، فغدت حياته نوراً على نور لأنها منبثقة من النور، وقد اجتمع لدى المسلم نور الوحي الذي آمن به، ونور الفطرة التي حافظ عليها، ونور العقل الذي احترمه وشغَّله.
وبهذا كله أصبح المسلم على بصيرة بالآتي:
< معرفة الخالق العظيم سبحانه وتعالى.
< معرفة الغاية من الحياة، ومنهج العيش فيها، وحقيقة الحياة التي تليها.
< الالتزام بمنهج الخالق في الحلال والحرام بعيدا عن الأهواء الشخصية، والتشريعات والتحكمات البشرية.
< معرفة طرائق التعامل مع من حوله، وما حوله، فالظواهر الطبيعية والمظاهر الكونية مخلوقات لا آلهة، والبشر حوله إخوانه لا أعداؤه، والأخوة إن لم تكن في الدين ففي الإنسانية.
< أدرك المسلم في ظل رؤيته الكلية الإسلامية، أو نموذجه المعرفي الإسلامي أن ما يخالف هذه المنهجية من أفكار وتوجهات ونظريات عبث محض، وضلال محض، فلم ينبهر بأضواء المدنية الغربية الشارد أهلها عن الله تعالى، ولم تدهشه تلك النظريات التي دمرت الإنسان وأفقدته معاني الهداية، من نظريات العلمنة والحداثة وما بعدها، وسائر هذه الضلالات والأباطيل فماذا بعد الحق إلا الضلال .
والحمد لله أولا وآخرا.
د. أحمد زايد