خواطر في تدبر القرآن الكريم


أنزل الله سبحانه كتابه القرآن الكريم ليكون هاديا للناس ودليلا لهم يعرفهم بخالقهم وينير لهم سبيل الرشاد باسطا آياته المحكمة مجالا للتدبر وتأمل المعاني والاعتبار بالقصص والأمثال، ولذلك دعانا ربنا إلى تدبره والنظر فيه بعين البصيرة، قال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب (سورة ص: 29). وعاب على أقوام تخليهم عن القيام بهذا الأمر وإغفالهم للتفكر والتدبر في كتابه فقال: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (محمد: 24).
انطلاقا من هذه الأوامر الإلهية، واستثمارا لأوقات مباركة من شهر رمضان الفائت، يسر الله لكاتب هذه السطور تقييد بعض ما فتح الله به من الخواطر والتأملات في تدبر كتاب الله تعالى، وذلك بتدوين ما أثمره النظر والتفكر في معاني الآيات بشكل يومي وفي سطور معدودة موجزة تجنبا للإكثار وطلبا لتركيز الفكرة، فأحببت أن أشرك القراء في هذه الحصيلة، آملا من العلي القدير أن يتقبلها عنده استجابة لأمره بالتدبر وأن يمن علينا فنكون من أهل التخلق بالقرآن تلاوة وتدبرا وسلوكا..
1 – حينما تتدبر سورة الفاتحة تجد أنها جمعت عصارة الدين وخلاصة أمره: فهي فاتحة الكتاب وفاتحة الصلاة وفاتحة الفهم الصحيح للدين، تعرفك بالله وأسمائه وتعلمك باليوم اﻵخر، يوم الدين، أما قلبها وجوهرها ففي آية إياك نعبد وإياك نستعين . وأخيرا تدلك على الصراط المستقيم مع التحذير من طريقين منحرفين: طريق من عرف الحق وحاد عنه وهم المغضوب عليهم، وطريق من ضل عن الحق وتاه في الباطل.
فاللهم عرفنا الحق واجعلنا من أهله..
2 – من لطيف التناسب بين سور القرآن الكريم، أننا لما طلبنا من ربنا سبحانه الهداية إلى الصراط المستقيم في الفاتحة، جاءنا الجواب في مطلع السورة التي تليها، وهي سورة البقرة بقول الله تعالى: ذلك الكتاب ﻻ ريب فيه هدى للمتقين فدلنا سبحانه على أن تفاصيل الصراط المستقيم موجودة في هذا الكتاب الذي هو القرآن، وبين لنا علامات المتقين السالكين درب الهدى بقوله: الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون والذين يومنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وباﻻخرة هم يوقنون فمن استجمع ذلك وقام به حصل مقصوده من الهداية إلى الصراط المستقيم وشهد له الرب بذلك حيث قال: أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون .
3 – يدلنا قول الله تعالى في سورة البقرة الآية 35: وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما وﻻ تقربا هذه الشحرة فتكونا من الظالمين على سعة رحمة الله بالإنسان، وعلى أن حجم المحظور والممنوع في الشريعة مقارنة بما هو مباح ومسموح به، كحجم الشجرة المحظورة بالنسبة إلى الجنة المسموح بتناول ما فيها والتمتع به.
4 – ﻻ يمكن لمتدبر القرآن أﻻ يقف متأملا عند أعظم آية فيه، وهي آية الكرسي (البقرة: 254 ) حيث أروع وأجمع وصف للذات الإلهية بذكر عظمة الله وجلاله وشمول سلطانه. يقول الحق سبحانه:
الله ﻻ إله إلا هو الحي القيوم ﻻ تأخذه سنة وﻻ نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إﻻ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وﻻ يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض وﻻ يئوده حفظهما وهو العلي العظيم .
وبكون اﻵية التي فيها ذكر الله تعالى بعظيم أسمائه وجليل صفاته، هي أعظم آية في القرآن الكريم، تدرك أن أعظم مقصود لهذا الكتاب هو أن يعرفنا بربنا ويدلنا عليه، وأن كل ما عدا ذلك خادم لهذا المقصد العظيم وتابع له، كما تدرك تعسف وتنطع ما وقعت فيه طوائف من الناس عدلوا عن هذه البساطة وهذا الجمال في التعريف بالحق سبحانه إلى تعقيدات كلامية وتعمقات متكلفة لم تنتج معرفة بالله وإيمانا بألوهيته بقدر ما أنتجت مقوﻻت نظرية ﻻ يصل إلى القلوب شيء من آثارها.
لن نعرف الله، إﻻ بكلام الله.
5 – رب قد علمنا أنه ﻻ راد لحكمك، إذ قلت في كتابك: ﻻ إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . فنسألك ياربنا أن تصرف قلوبنا إلى سبيل الرشد وتمن علينا بوﻻيتك فتخرجنا من ظلمات الجهالة والغفلة إلى نور معرفتك وذكرك والتعلق بحبك وقربك ..
6 – قال تعالى في سورة آل عمران الآية 163: هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون .
لئن عظم محل الضيافة وهي الدرجات الرفيعة التي جعلها الله لمن اتبع رضوانه ، فإن اﻷعظم والأجل أن تنسب الدرجات إلى خير مضيف وهو الله مالك الملك سبحانه.
فاللهم ﻻ تحرمنا درجات تقربنا منك وتجعلنا عندك من المكرمين.
7 – دعوة للتفكر:
يقول ربنا : إن في خلق السماوات واﻷرض واختلاف الليل والنهار ﻵيات ﻷولي اﻷلباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (آل عمران: 192-190).
إذا كان الإنسان قديما قد عرف الله بفطرته السليمة مستدﻻ بمشاهداته فيما أتيح له من محيطه المنظور، كما عبر عن ذلك الأعرابي البسيط بقوله: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أﻻ يدل ذلك على الخالق العظيم؟ فإننا اليوم أجدر أن نتوسع في التفكر في آيات الله المبثوثة في اﻵفاق لنتعرف على عظمته وقدرته..
فهذه الأرض التي نقف عليها هي جزء صغير في مجموعة شمسية تنتمي لمجرة درب التبانة التي تضم ما يقرب من مليارين ونصف من النجوم، تضاف إلى مجموعة من 400 مليار مجرة، وكل ذلك ﻻ يشكل سوى 1% من الكون الذي أتيحت لنا معرفته، بينما تبقى 90% من الكون مادة مجهولة بالنسبة لنا ونحن في عصر الفضاء، مما يعرفنا بقدرنا وأن هذه اﻷرض التي نحيا عليها ليست سوى حبة من حبات الرمال في هذا الكون الشاسع.
حري بمن كان من أولي اﻷلباب أن يديم ذكر خالق هذا الكون في سائر أحواله ويتفكر في خلق السماوات والأرض على سبيل اﻻعتبار ليخلص إلى النتيجة الحتمية: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فليس اﻷمر عبثا وﻻ العاقبة سدى، وعليه فلا ملجأ من الله إﻻ إليه، وله يرفع الدعاء: فقنا عذاب النار .
اللهم اجعلنا من أولي اﻷلباب، ووفقنا لذكرك ودعائك يارب اﻷرباب.
8 – مما ورد في القرآن الكريم على لسان أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض:
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (آل عمران: 193).
مادام التفكر في آيات الله قائما، فسيظل أولو الألباب على نفس المنوال والمنهج، وإن كان المنادي اﻷول وهو رسول الله قد رحل عن هذه الدار، فقد بقي بيننا المنادي الدائم وهو كتاب الله المنزل على رسوله، القرآن الكريم، يؤدي نفس الوظيفة: ينادي للإيمان ويبسط وعد الله لمن آمن وأحسن عملا.
ربنا قد سمعنا مناديك فآمنا.
9 – مما ينير بصائرنا ويبين لنا علامات الطريق، قول الحق سبحانه وتعالى:
والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (النساء: 27).
إنما هما طريقان: طريق الحق الذي شرعه الله ليطهر عباده من الآثام ويتوب عليهم، وطريق الشيطان وأعوانه من الفسقة والفجرة الذين يريدون لعباد الله أن يميلوا عن طريق الحق باتباع الشهوات واﻻنغماس فيها، حتى يكونوا مثلهم في الفسق والفجور، مثلما يريد الشيطان أن يغوي أكبر عدد من بني آدم ليشاركوه سوء العاقبة: قال رب بما أغويتني ﻷزينن لهم في الأرض وﻷغوينهم أجمعين إﻻ عبادك منهم المخلصين
10 – كتب الله على من قبلنا تحريم قتل النفس وضرورة المحافظة عليها، وهو شرع لنا أنزل الله في شأنه قرآنا يتلى، فقال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا (سورة المائدة : 34).
وإذا كان لإحياء نفس واحدة بالمحافظة عليها فضل عظيم مشَبَّه بإحياء الناس جميعا، وهي حياة محدودة بعمر قصير وأجل محتوم، فما بالنا بمن أجرى الله على يديه إحياءها الحياة اﻷبدية، وذلك بدعوتها إلى الإيمان وهدايتها إلى طريق الحق و الخير، فتلك والله هي الحياة الحقيقية بنص القرآن الذي قرأنا فيه: يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم (الأنفال : 24). ويكفي أن نعلم أن الفرق بين ذكر الله والغفلة عنه، كالفرق بين الحياة والموت، أخبر بذلك النبي المصطفى بقوله: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت» (متفق عليه).
اللهم أحي قلوبنا بذكرك، واجعلنا سببا لحياة عبادك.

ذ. أنور الحمدوني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>