التفسير الفقهي في العصر الحديث من خلال أعمال بعض المفسرين: مناهج وقضايا في الفقه والأصول 2


إن موضوع هذا البحث هو في التفسير الفقهي ، وهو اتجاه في التفسير يعنى بآيات الأحكام تفقهاً ، ودراسة ، واستـنباطاً ، اعتماداً على قواعد الفهم ، وأصول الاستـنباط المنثورة في أصول التفسير وأصول الفقه .

ولقد نما هذا النوع من التفسير وترعرع منذ القرن الثاني الهجري ، وأُلفتْ فيه المطولات والمختصرات ، فكان بحاجة إلى دراسات وبحوث تجلِّي قضاياه ، وتُبرز خصائصه ، وتُحدِّد معالم منهجه ، وتَضبط مسائله الأصولية والفقهية .

وفي هذا الإطار يدخل موضوع هذا البحث الذي شمَـِل قرنين من الزمان ، وجملةً من الأقطار ، وعدداً من المفسرين : مبتدئاً بالإمام محمدِ بنِ علي الشوكاني ومختتماً بالدكتور وهبةَ الزحيلي .

دوافع البحث

أولاً : استيعابُ مقاصد القرآن الكلية ومبادئه الكبرى في مجال التشريع .

ثانياً : معرفةُ المناهج المستخدمة في توظيف العلوم الشرعية واللغوية لاستـنباط الأحكام ؛ كالحديث والأصول والفقه واللغة والنحو والصرف والاشتقاق والبيان والمعاني وغيرها .

ثالثاً : الاطلاعُ على مآخذ الأصوليين في استـنباط القواعد الشرعية واللغوية من آيات القرآن

رابعاً : الاطلاعُ على مآخذ الفقهاء في استـنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية

خامساً : التعرفُ على أصول المذاهب الفقهية بما اتفقوا فيه وما اختلفوا ، سواءٌ في المصادر الأصلية أو الفرعية أو في القواعد الشرعية أو اللغوية .

سادساً : التعرفُ على الخطوط الكبرى والمعالم الأساسية للفقه عامةً والفقهِ المقارن خاصةً معروضاً في إطار الاحتجاج وبيان الأدلة .

هذه الفوائد العامة ، وأما الخاصة فتتعلق بالحقبة الزمنية المختارة ، وبالتفاسير المدروسة ، وذلك للموجبات التالية :

1 ــ محاولةُ اكتشاف التطور ــ إن وُجد ــ في هذا النوع من التفسير شكلاً ومضموناً

2 ــ محاولةُ اكتشاف أثرِ هذا العصر الموّار بالحوادث في هذه التفاسير شكلاً ومضموناً كذلك ، خاصة بعد تلك الهزةِ الهائلة التي أحدثـتْها الحضارةُ الغربية الناهضة في الحضارة الإسلامية الخامدة .

3 ــ محاولةُ اكتشاف قدرة المفسر على التفاعل مع هذا العصر المليء بالجديد في شتى ميادين الحياةِ من خلال نصوص القرآن التشريعية حين يُبدي حُكمَ الشرع فيما جدَّ من أنظمةٍ وقوانينَ وأوضاعٍ ووقائع ، وحين يقترح الحلولَ المناسبةَ التي تراعي الشرعَ والواقع معاً .

4 ــ محاولةُ التعرف على منهج المفسر وأسلوبه في ردِّ الطعونِ المتكاثرة التي ما فتئتْ تُوجَّه إلى الشريعة الإسلامية ونُظُمها المختلفة.

5 ــ محاولةُ معرفة مدى تَمثُّـلِ المفسر للأصولِ الشرعية والقواعدِ الأصولية والخلافِ الفقهي واستثمارِ ذلك كلِّه في تقرير الأحكام واستـنباطِها والترجيحِ بينها .

6 ــ محاولةُ معرفةِ الجديد الذي قدَّمه المفسر في مواضيع مختلفة ، سواء أكانتْ جديدةً تماماً أم قديمةً أُعيدتْ صياغتُها أو أُعيدَ النظرُ في فهمها وتقريرها .

المنهج

بما أن الهدفَ هو كشفُ الواقع المنهجي والأصولي والفقهي لهذه التفاسير فقد سلكـتُ في دراستها المنهجَ التالي : جمعُ النصوص و تصنيفهاُ  و دراستهاُ

محتوى البحث

المدخلَ للتعريفِ بالتفسير الفقهيِّ وبيانِ المقصودِ منه وقيمتِه ، وشروطِ المفسر المشتغلِ به .

ُ  القسمَ الأول ــ وقد اشتمل على جانبين : تاريخيٍّ   (أدوارِ التفسير الفقهي منذ العهدِ النبوي إلى العصر الراهن ) ومنهجيٍّ   ( مناهج المفسرين في مستوَيَيْن : الأولِ لبيانِ المنهجِ العام للمفسر ، والثاني لبيان منهجه الفقهي والأصولي ، مع ترجمة موجزة عن المفسر والكتاب تسبق ذلك) . وذيَّلتُ ذلك كلَّه بفصلٍ عن خصائصِ التفسير الفقهي في العصر الحديث

القسم الثاني : تـناول قضايا الأصول في التفاسير المدروسة :

فدرَس البابُ الأول منه المصادرَ الشرعيةَ أصليةً وفرعية : سنةً وإجماعاً وقياساً واستدلالاً .

ودرس البابُ الثاني بعضَ القواعدِ الأصولية اللغوية وهي :  العامُّ وتخصيصُه ، والأمرُ والنهي ، والمطلقُ والمقيد ، والدلالاتُ ،  والمصطلح .

ودرس البابُ الثالثُ قضايا أصوليةً مُتمِّمة وهي : الاجتهادُ والتقليد ، والنسخُ ، والتعارضُ والترجيح .

القسمَ الثالث:  ِ قضايا الفقهِ ، وقد اشتمل على بابين : الأولُ في أربعةِ فصول، توزعتْ على الشكل التالي : فصلٍ في تصنيفِ مَتن فقهي من هذه التفاسير ، وآخرَ في تجميع نقدِ المفسرين آراءَ بعضِ العلماء في دلالات بعضِ الآيات على الأحكام ، وثالثٍ في تجميعِ آرائهم التي خالفوا فيها جمهور الفقهاء ، ورابعٍ في نقدِ بعض آرائهم .

والبابُ الثاني في دراسة أهمِّ القضايا الفقهيةِ المعالجةِ منهم ، اعتباراً بجدَّتها أو بخطورتها أو بتغيير شكل عَرْضِها وتفسيرِها ، مرتَّبةً حسب الأهمية . فتـناولَ   الفصلِ الأول شؤونَ الحُكم والسياسة، و   الثاني شؤونَ السِّلم والحرب والعلاقاتِ الدولية ، و  الثالثِ شؤونَ المالِ والاقتصاد ، و  الرابع شؤونَ المرأ ، و  الخامس تـناولَ مسائلَ مُفرَدةً في شتى شؤون الدين والحياة .

وخصصتُ الخاتمة لعرض خلاصة البحث ونتائجه .

أهم نتائج البحث

من حيث مميزات التفسير الفقهي الحديث وخصائصه من خلالها يمكن إجمالها فيما يلي:

< أنه ذو طبيعة تأصيلية  وتجلى ذلك في : التزام النص  والاهتمام بالرواية   .

< أنه  ذو طبيعة تعليلية

< أنه  ذو طبيعة هجومية كاسحة على الفقه والفقهاء ــ في بعض مراحله ــ ، ولدى طائفة أخرى ذو طبيعة تفسيرية هادئة كاشفة عن المسوغات الداعية إلى ذلك المذهب أو ذلك الرأي .

< أنه ــ في بعض مراحله ولدى بعض رؤوسه ــ ذو طبيعة دفاعية وأحياناً تسويغية لما هو كائن ، خاصة فيما يصادم أسس الفكر الغربي أو يصادم أطماعه ؛ كموضوع الجهاد في العلاقات الدولية ، ومسألة الربا في الشؤون الاقتصادية ، ومسألة الحدود الشرعية في الأحكام الجزائية

< أنه   ذو طبيعة استقلالية ، وتجلى ذلك في :

1 ــ ممارسة الاجتهاد والدعوة إليه لدى أغلبهم .

وتتجلى مظاهر هذه الممارسة والدعوة فيما يلي :

> عدم التقيد بأصول مذهب معين ، إلا ما كان من الآلوسي فإنه قد التزم بمنهج الحنفية في الاستدلال واستعمال المصطلحات الأصولية.

> عدم التقيد بمذهب معين في فروع المسائل الفقهية ، إلا ما كان من الآلوسي

> الدعوة إلى عدم التقيد بمذهب معين في المسائل الفقهية فتوى وقضاء ، إلا الآلوسي فلم أقف له في تفسيره على دعوة مماثلة .

> بيان ضرر التقيد بمذهب معين

2 ــ البعد عن التعصب المذهبي

3 ــ البحث عن حلول ملائمة للظروف الجديدة :

4 ــ  طرح رؤى جديدة في ميادين شتى ، كالتعليم والتربية والمرأة والسياسة والحكم والاقتصاد ،

5 ــ العناية بالجانب التعليمي

6 ــ إدخال علوم جديدة في التفسير الفقهي

< أنه ذو طبيعة نقدية ، وهي نتيجة طبيعية للقول بالاجتهاد ونبذ التقليد

< أنه ذو طبيعة تفاعلية وتأثرية

< أنه امتاز بالحسم في مجال العبادات وبعض مسائل الحلال والحرام ، والتردد في بعض الأمور السياسية .

< كما ظهر من خلال هذه المحاولة  أن هنالك اتجاهاتٍ متـنوعةً في هذه التفاسير

فبعض المفسرين يميل إلى وبعضهم يميل إلى التيسير في الأحكام المستـنبطة بالاعتماد على مقاصد الشريعة وبعضهم يميل إلى التجديد والمعاصرة مراعاة ظروف العصر ، وآخرون إلى المحافظة والانكفاء على الذات .وبعضهم يميل إلى التعليل وبعض المفسرين يميل إلى الاستدلال والترجيح بين الآراء ، وآخرون إلى الاستعراض دون ترجيح إلا في القليل .وهناك من توسط في ذلك وبعضهم يجمع بين التـنظير والتطبيق

< كما تبين من خلال هذا البحث أن تعامل هؤلاء المفسرين مع المادة الفقهية والأصولية كان متنوعاً : فبعضهم أولى عناية كبيرة للفروع الفقهية وآخرون اعتـنوا ببيان الأصول التي ترجع إليها هذه الأحكام ، دون عناية كبيرة بالفروع الفقهية

< كما تجلى من خلال هذا البحث أن التفسير الفقهي في هذه التفاسير قد اتسم لدى بعضهم  بالتفصيل والتوسع.

< كما تبين من خلاله عدم التجديد في الطريقة التقليدية في دراسة الأحكام القرآنية باعتماد  الطريقة  التجزيئية

هذا ولقد كان لأستاذي الكريم ــ الدكتور عبد السلام الهراس حفظه الله ـ المشرفِ على هذا البحث ، الفضلُ الأكبر والنصيبُ الأوفر في تصحيح مسار البحث ، وتقويمِ اعوجاجه ، وترشيدِ خطواته فله مني خالص الشكر والثناء ، واللهَ أسأل أن يُكرمه بما أكرم به عباده الصالحين وجندَه المخلصين .

تطوان في 29 شوال 1421هـ

الموافق 24 يناير 2001 م


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

2 thoughts on “التفسير الفقهي في العصر الحديث من خلال أعمال بعض المفسرين: مناهج وقضايا في الفقه والأصول