قواعد في الاختلاف والائتلاف – الخلاف مجرد وسيلة وليس غاية في ذاته 1


بيان هذه القاعدة يحتاج منا النظر في مسألة الخلاف من جهة إثارة الأسئلة الآتية: هل الخلاف مقصود لذاته أو هو مجرد وسيلة؟ وما هو الأولى للأمة هل هو تحصيل الوحدة وائتلاف أفرادها على المصلحة العليا واجتماع كلمتها أم أن مصلحتها في اختلافها وتفرق أبنائها طوائف وأحزابا وتشبثهم بأفكارهم ومذاهبهم وعدم فبول المخالف؟ ولماذا حرم الشارع بعض الأنواع من الخلاف خاصة الخلاف في القطعيات والأصول؟ ولماذا منع الشارع من الخلاف في القطعيات في الفروع وفي المعلوم من الدين بالضرورة؟ ألا يدل ذلك على أن الخلاف ليس مقصودا لذلك؟ أليس في المنع من هذا الخلاف دلالة على أن الأمة وإن اختلفت فعليها ألا تختلف في أصولها وقطعياتها وعليها أن تبقي على مجال رئيس للوحدة والاجتماع هو مجال الأصول والقطعيات والمعلوم من الدين بالضرورة، وأن الخلاف إن حصل فلا ينبغي أن يلحق هذه المجالات لأنه إن أصابها فقد أصاب الأمة في مقتلها ولن تجتمع كلمة على شيء بعد ذلك؟ ثم ألا يدل فعل الشارع في تقليل مساحة الخلاف وحصرها في مجال الظنيات القابلة لتفاوت الأنظار دون غيرها على أن مقصود الشارع الحكيم توسيع دائرة الاتفاق وأن غاية العباد القصد إلى وحدة الأمة؟ ثم أليس في الأمر الشرعي وتوجيهه للمختلفين برد المختلف فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله دلالة على توحيد الأمة والحرص على وحدتها وأن الخلاف ليس مقصودا لذاته؟ وما الحكمة التي تقف وراء جواز الاختلاف في مساحة الظنيات؟ وهل الخلاف فيها فرض لازم أم هو مجرد ترخيص يصار إليه عند تعذر الاتفاق والإجماع؟
انطلاقا من هذه التساؤلات نبني الكلام في هذه القاعدة على الشكل التالي:
- كل اختلاف في الكون إلا وهو تجل للوحدة:
اختلاف الموجودات بجميع أجناسها وأنواعها وأشخاصها إنما هو اختلاف ظاهري ليس مقصودا لذاته ولا هو غاية في ذاته وإنما يطوي وراءه حكما أخرى عديدة منها الدلالة على وحدة الصانع وبديع صنعه ، ففي الاختلاف وحده تتجلى القدرة والإبداع ولقد قرن الباري سبحانه صفة إبداعه بتعدد المخلوقات فقال تعالى: بديع السماوات والأرض وكثيرا ما نبه الله جل وعلا عباده إلى قدرته على خلق الموجودات مختلفة ومتفاوتة ومتنوعة ومتباينة للدلالة على وحدته وتفرده بالخلق والأمر ويقول ابن تيمية: المخلوقات كلها آيات للخالق والفرق بين الآية والقياس إن الآية تدل على عين المطلوب الذي هو آية وعلامة عليه (مجموع الفتاوى،1/ 48).
فجسم الكائن الحي يتكون من مجموعة أعضاء مختلفة، ومجموعة أنسجة متباينة، ومجموعة خلايا متنوعة ولكن وراء هذا الاختلاف وحدة الجسم وكليته.
وعالم النبات عالم مختلف أنواعا وأشكالا وأحجاما وثمارا ولكنه مع ذلك يدخل تحت وحدة كلية، وكل أفراد النوع يخضعون لقانون الكل ووحدته، وفضائل النبات وأنواعه مندرجة تحت قانون كلي للنباتات.
- كل خلاف في عالم الحياة الإنسانية دليل النقص والافتقار ووسيلة للتسخير والتكامل ودليل على وجود الكامل:
يفيد النظر في عالم الموجودات جامدها وحيها، وفي عالم الإنسان أن كل مخلوق منها ناقص في ذاته ومحتاج للآخرين من جنسه ومن غير جنسه، ولا يوجد كائن مكتف بذاته اكتفاء تاما ومستغن عن الآخرين استغناء مطلقا، واحتياجه إلى الآخرين دليل على النقص الذاتي في المخلوق، وفي اختلاف المخلوقات بعضها عن بعض يجد كل مخلوق ما يكتمل به عند الآخر، فثبت بهذا أن الاختلاف دليل نقص أولا، ووسيلة للتكامل: تكامل الاحتياجات، وتكامل الوظائف، ووسيلة لتحقيق التوازن البيئي. وقد بين القرآن الكريم هذه القاعدة حينما قال تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف : 32).
وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾(11).
فثبت بهذا أن اختلاف الموجودات إنما هو مجرد وسيلة لتكاملها، ووسيلة الاستدلال بها على وجود الكامل، وأنها من آياته الدالة على وجوده. لذا فكل اختلاف عاد على غاية التكامل بالتآكل فهو باطل، وكل اختلاف عاد على أصل التوحيد بالنفي فهو باطل مثل دعوى وجود آلهة متعددة، وكل خلاف ناقض كمال الصانع فهو باطل.
- الاختلاف وسيلة للعمران:
العمران البشري قائم على العنصرين المادي والبشري: (الكون وما فيه من موجودات + الإنسان) ولا يصح الاستخلاف والتعمير إذا لم يكن هناك اختلاف الذوات والصفات، اختلاف الكميات والكيفيات أنواعا ومقادير، لذلك فكل مظاهر الاختلاف وأنواعه بين عالم الموجودات وعالم الإنسان إنما هو وسيلة داخلة في التسخير؛ تسخيرها للإنسان المكلف بالإعمار والاستخلاف. وكل مظاهر الاختلاف داخل عالم الإنسان إنما هو وسيلة للإعمار، ووسيلة للتدافع في العمران البشري الذي لا يكون فيه الابتلاء بالاستخلاف إذا لم يكن الاختلاف والتدافع بين الناس: ظلما وعدلا، علما وجهلا، قولا وفعلا، طبعا وشرعا، وامتثالا وعصيانا…
وهكذا يظهر أن الاختلاف مجرد وسيلة لإغناء الحياة وتنويع الخير اللازم للعمران، وإذا تعدى هذه الوظيفة ليصير هادما للأصل صار باطلا واقتضى الأمر الاحتكام إلى الأصول، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: «كل تكملة فلها -من حيث هي تكملة- شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها؛ فلا يصح اشتراطها عند ذلك» (الموافقات: كتاب المقاصد: القسم الأول مقاصد الشارع: النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة: المسألة الثالثة شرط كل تكملة أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال).
وحاصل الأمر أن الاختلاف وسيلة للإعمار وليس للدمار، وكل اختلاف أدى إلى تنازع وأفضى إلى نقض أصل التعمير فهو مردود ولا أصل له.
- الاختلاف وسيلة للمعرفة:
ركب الباري جل وعلا العقل البشري على الإدراك والمعرفة، إدراك خواص الموجودات وأعراضها، وجعل الاختلاف بينها سببا لمعرفتها وتمايزها؛ ولو لم تختلف لما أمكن الإدراك ولما حصلت المعرفة، لذلك قيل: «بضدها تتمايز الأشياء» والضد أقصى درجات الاختلاف، فلو قيل: «باختلافها تتمايز الأشياء» لصح إذ أن أدنى نسبة من التغاير والاختلاف والتفاوت كافيا لإثبات الاختلاف وثبوت المعرفة، ولو كانت الموجودات على هيئة واحدة لما تميزت ولما كانت قابلة لأن تعرف وتدرك. فالمعرفة مستحيلة بدون الفروق والاختلافات بين الأشياء والموجودات. وبهذا صح أيضا أن الاختلاف ليس إلا وسيلة لغيره.
- الاختلاف وسيلة للتعارف:
إذا كان اختلاف المخلوقات وسيلة للمعرفة، فالاختلاف بين الناس وسيلة لمعرفة بعضهم بعضا وهو مقتضى «التعارف»؛ فلو لم يخلقهم الله تبارك وتعالى مختلفين أجساما وألوانا وأحجاما وطبائع وعقولا وقدرات… لما أمكن لواحد أن يعرف الآخر، ولا أن يحصل التمايز والتعارف، وقد ركب الخالق الأشياء على خصائص خاصة بكل شيء وبكل مخلوق تعتبر «عَرْفَه» وسمته وعلامته المميزة له عن غيره، بل جعل فيه سماتٍ متعددةً وصفاتٍ متفاوتةً في التعريف به والدلالة عليه. لذلك نبه الحق سبحانه إلى هذه المسألة فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ؛ فخلْقُ الناس «من ذكر وأنثى» فيه إشارة إلى اختلاف صفات جنسي الذكورة والأنوثة، وجَعْلُهم «شعوبا وقبائل» فيه إشارة إلى اختلاف الخصائص البشرية الراجعة إلى العوامل الجغرافية والاجتماعية والثقافية والحضارية والتاريخية التي تسم كل شعب وتخص كل أمة وبهذه الخصائص الفطرية في الجنس والصفات الثقافية المتمايزة بين الشعوب صار التعارف ممكنا.
والنتيجة من هذا أن اختلاف الموجودات إنما هو وسيلة للتعارف وليس للتناكر، وكل اختلاف أدى إلى نقيض هذا الأصل كان غير معتبر.
- الاختلاف وسيلة للابتلاء:
إذ لو كان الناس كلهم على شاكلة واحدة، ولو كان الخلق كله واحدا لما أمكن تسخير، ولما أمكن تكليف، ومن ثم لما امكن ابتلاء، فاختلاف الناس أساسا اختلاف من مقاصده الابتلاء والاختبار:
• لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب (الأنفال: 37).
• وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُون (الفرقان: 20).
• وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ (محمد: 4).
إذن فخلق الناس مختلفين أشكالا من الاختلاف والتباين ليس غاية في ذاته إنما هو مجرد وسيلة للابتلاء والاختبار.. وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرا .
- الاختلاف وسيلة للجمال والإحساس بالجمال:
لا يشك عاقل في القيمة الجمالية التي يضفيها التنوع والاختلاف إضفاء الجمال على الأشياء والموجودات، ولا يشك عاقل متذوق للجمال في القول بأن أجمل لوحة رسمت في الوجود هي لوحة الوجود ذاته، ولم تكن أجمل إلا لكونها احتملت على تناسق بديع الألوان والموجودات والأشكال والهيئات… ولذلك لو لم يكن هناك اختلاف لما أمكن تذوق الجمال ولا الإحساس به. صنع الله الذي أتقن كل شيء.
فالجمال هو غاية خلق الموجودات مختلفة، وبالتالي فاختلافها ليس مقصودا لذاته.
وعليه فاختلافات الناس كل الناس ينبغي أن تتأطر ضمن هاتين الحقيقتين:
1 – اختلاف الأكوان دليل وحدة المكون وتفرده بالألوهية والعبادة.
2 – واختلاف الناس دليل إلى العمران الصالح الذي لا يصلح إلا باجتماع الناس على الإقرار بالخالق إلها واحدا وما يتبع ذلك من الدخول في سلك الطاعة والشكر اختيارا كما هو حاصل اضطرارا.
يتبع

الطيب بن المختار الوزاني


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “قواعد في الاختلاف والائتلاف – الخلاف مجرد وسيلة وليس غاية في ذاته

  • احمد الشقيرات

    بوركتم على الجهد المبارك ، لكن لا يفوتنا هنا التنبيه ان الاختلاف منه المحمود ومنه المذموم ، فاختلاف التنوع والتباين عنوان جمال وتكامل كما تفضلتم ، لكن هناك اختلاف تناقض وتدافع ، كوجود الكفر والإيمان ، ومثل هذا الاختلاف حكمته الابتلاء نعم ، لكنه مذموم وقبيح.