أسـبـاب حـبـوط الأعـمـال فــي الـقـرآن الكـريـم وإحباطها 2/2


تتميما للحديث عن الأسباب التي بموجبها تَحبط الأعمال وتُحبط يواصل الكاتب الكريم حديثه عن بقية ذلك.
< كراهة ما أنزل الله:
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (محمد: 8-9)
والمراد بـ (مأنزل الله) (القرآن وما فيه من التكاليف والأحكام)(1)، وقال الطبري: (هذا الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه إلى نبينا محمد وسخطوه، فكذّبوا به، وقالوا: هو سحر مبين)(2).
< اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه:
قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (محمد: 28 – 30).
(قال ابن عباس: بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد، وكرهوا رضوانه كرهوا ما فيه رضوان الله، وهو الطاعة والإيمان)(3).
< النفاق:
قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (المائدة: 52-53).
وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (الأحزاب: 18-19).
معلوم من معهود القرآن في الحديث عن المنافقين؛ الكناية عنهم بـ (الذين في قلوبهم مرض)؛ كما في الآية، أو وصفهم بـ (في قلوبهم مرض)؛ كما في في سورة البقرة التي تضمنت حديثا مفصلا عن طبائعهم وصفاتهم وخداعهم، وذلك قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا (البقرة 10)،
وهذه الآيات تخصهم دون سواهم، -كما اتفق على ذلك جمع من المفسرين-، وتنبئ عن حالتهم المضطربة ونفسيتهم المهزوزة، وعدم ثقتهم في موعود الله لنبيه بالنصر، وإيثارهم السلامة والغنيمة الباردة، وسلوكهم –لضمان ذلك– كل مسلك؛ من الخيانة والغدر، والطعن في الظهر، والتحريض والتأليب، ونقض العهود والمواثيق… وهلم جرا، لكن الله المتعال المحيط بكل شيء علما خيب آمالهم وسفه أحلامهم وردهم على أدبارهم خائبين، فلم يظفروا بما أملوه من سلامة في الدنيا، ولم يكن لهم ما يرجوه المومنون الصابرون من نجاة وكرامة في الآخرة.
< مشاققة رسول الله:
قال تعال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (محمد: 32).
ومعنى وَشَاقُّوا الرَّسُولَ : أي؛ فارقوه(4) (فكانوا في شق وهو في شق)(5) مع ما يستلزمه ذلك من مخاصمة ومخالفة ومحاربة وإذاية، وكل ذلك من بعد ما علموا أنه نبيّ مبعوث، ورسول مرسل(6).
< عدم تعظيم النبي وتوقيرِه وإجلالِه:
قال تعال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (الحجرات: 2).
لقد أرشد الله تعالى في هذه الآية الكريمة إلى سلوك الأدب التام مع رسول الله في القول والفعل، وعدم الاستهانة في شيء مما يمكن أن يحسبه الإنسان هينا وهو عند الله عظيم يترتب عليه حبوط الأعمال وبطلانها؛ ومن ذلك رفع الصوت بحضرته، والجهر له بالقول عند مخاطبته كما يخاطب عموم الناس. وفي القرآن الكريم توجيهات كثيرة وتنبيهات عديدة للمومنين لالتزام تعظيمه وتوقيره وتبجيله كما في قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ (الفتح: 9)، وأن يكون حالهم معه -نطقا وتعاملا– حال خاص كما يدل على ذلك قوله تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا (النور: 63).
وهذا الذي أوجبه الله تعالى له حيا، أوجب له مثيله وهو في قبره سواء بسواء. قال ابن كثير: (وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله قد ارتفعت أصواتهما، فجاء، فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا)(7).
فوجب على اتباعه وطلابه أن يرعوا ذلك ويقدروه قدره ولهم –إن فعلوا- الفوز والفلاح في الدارين؛ قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأَعراف: 157).

د. خالد العمراني
—————-
1 – الكشاف عن حقائق التأويل للزمخشري بمناسبة الآية 9 من سورة محمد.
2 – جامع البيان للطبري بمناسبة الآية.
3 – معالم التنزيل للجسين البغوي بمناسبة الآية.
4 – تفسير كتاب الله العزيز للهواري بمناسبة الآية.
5 – المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي أبو محمد، عبد الحق بن عطية بمناسبة الآية.
6 – ينظر جامع البيان للطبري بمناسبة الآية.
7 – تفسير القرآن العظيم لابن كثير بمناسبة الآية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>