قيمة الأخـذ بتفسير القـرآن بـالسـنـة الـنـبـويـة وحـكـمه


لم تكن وظيفة رسول الله مقصورة على التبليغ عن ربه، فقد كلف مع التبليغ ببيان ما يبلغه، يدل على هذا قوله جل ثناؤه لنبيه:﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (النحل:44).
«من هنا جاء الأمر في القرآن الكريم باتباع الرسول في كل ما يبلغه عن ربه، وكل ما يبين به القرآن الكريم من سنته، قولا كانت هذه السنة أو فعلا أو تقريرا، جاء هذا الأمر مؤكدا، وحاسما في أكثر من آية، وبأكثر من أسلوب»(1)، وحسبنا هذه الآيات.
يقول : من يطع الرسول فقد أطاع الله (النساء:79).﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (الحشر:7).﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم (آل عمران:31)…
وتفسير الرسول كان بتوقيف من الله عز وجل؛ لأن مصدره كان «وحيا من السماء، سواء ما نزل من آيات، أو ما قاله النبي ، وكلاهما وحي»(2)، لقوله تعالى:﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (النجم:3-4). ولقوله : «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»(3).
وفي هذا يقول ابن تيمية: «وإن بيانه أيضا من الوحي؛ لأنه -سبحانه- أنزل عليه الكتاب والحكمة»(4). ويفسر هذا قول أحمد الشرباصي: «والرسول لم يفسر آيات القرآن من عنده؛ بل بوحي من الله، وكان يسأل جبريل عن تفسيرها، وجبريل لا يفسرها من عنده؛ بل يتلقى تفسيرها عن الله…»(5).
وبهذا نخلص إلى أن أي تفسير صح عن النبي فهو واجب الأخذ والإتباع، «ليس لأحد فيه سوى النقل والوقوف عنده فلا يتجاوز»(6)؛ لأن النبي «مبعوث من ربه إلى العالمين بالمنهج الإلهي القرآني الذي أمره الله فيه بأن يبين للناس ما نزل إليهم. قال تعالى:﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (النحل:44).
يقول الدكتور مصطفى زير -في إطار حديثه عن ضرورة الرجوع إلى السنة، للاستعانة بها على بيان المراد بالآيات التي نحاول تفسيرها-: وتبلغ الحاجة إلى السنة في التفسير أقصاها عندما تعترض المفسر آية تتناول بعض الأمور الغيبية، أو تحكي قصص الأمم السابقة، أو تخبر بشيء سيقع، أو ما شاكل؛ كل هذا مما لا مجال للعقل -وحده- فيه… (7).
أما فيما يتعلق باجتهاداته الشخصية بصفته كبشر لا كنبي، فقد كان فيها مراقبا من السماء تصوب له أخطاءه، حيث كان لا يقر على خطأ (8). يقول أحمد الشرباصي: ولا شك في أنه يجب علينا أن نأخذ التفسير أولا من المنقول عن النبي ، بعد تبين صحة النسبة إلى النبي (9) ويقول ابن تيمية: فإن أعياك ذلك -أي تفسير القرآن بالقرآن- فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له (10). وفي حديثه عن أمهات مآخذ التفسير أكد الزركشي على أن أول هذه المآخذ هو: النقل عن رسول الله ، وهذا هو الطراز الأول؛ لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع؛ فإنه كثير (11).
هذه بعض الأقوال التي تؤكد ضرورة الرجوع إلى التفسير النبوي، ذكرتها على سبيل التمثيل لا الحصر؛ وإلا فهناك العديد من الأقوال في هذا الصدد.
ومن الأمور المختلف فيها هنا، المقدار الذي بينه النبي ؛ إذ هناك من قال بأنه عليه السلام بين لأصحابه كل معاني القرآن، وهناك من قال بأنه لم يبين لأصحابه من التفسير إلا القليل مما احتاجوا إليه… والخلاف -كما أكد مجموعة من العلماء– لفظي؛ لأن القرآن الكريم أنزل بلغة العرب، وكان لسان المخاطبين به من الصحابة عربيا، فلم يحتاجوا إلى السؤال عن كثير من آيات القرآن (12). ويقول الذهبي: والذي تميل إليه النفس: هو أن رسول الله بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه كما تشهد بذلك كتب الصحاح، وأنه لم يبين لهم كل معانيه؛ لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهالته… (13)، فالذي يجب التيقن منه هو أن النبي لم يترك شيئا كان الصحابة في حاجة إلى بيانه بغير بيان، وفي نفس الوقت لم يبين كل القرآن؛ لأنه لو تم ذلك لم تكن لهذه التفاسير جدوى أو منفعة، وبالتالي يبتعد الناس عن تدبر القرآن الذي هو واجب عليهم بنص القرآن… فإذا إن بيان القرآن الكريم إنما كان بحسب الحاجة إلى التفسير، فالمرحلة الأولى وهي مرحلة النبي فسر لأصحابه وبين لهم كيفية النهج الذي يسيرون عليه في تفسير القرآن الكريم (14).
هكذا يتبين أن تفسير القرآن بالتفسير النبوي هو أعلى مراتب التفسير؛ لأن تفسيره كان بتوقيف من الله تعالى، فهو بهذا واجب الأخذ به.

ذ. العربي عبد الجليل
———-
1 – دراسات في التفسير، مصطفى زير، ص:8، 9، دار الفكر، بدون طبعة ولا تاريخ.
2 – تفسير النسائي لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي صاحب السنن، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه: مركز السنة للبحث العلمي، صبري عبد الخالق الشافعي، سيد بن عباس الجليمي،ج.1، ص: 11.
3 – سنن أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزهري، شرح وتحقيق، عبد القادر عبد الخير، سيد محمد سيد، سيد إبراهيم، رقم الحديث: 4604، ج: 4،ص: 1972. دار الحديث، القاهرة، طبعة: 1420ﻫ/1999م.وورد أيضا في المسند للإمام أحمد بن حنبل، شرحه ووضع فهارسه، حمزة أحمد الزين، رقم الحديث: 17108، ج. 13، ص: 291. دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1416ﻫ/1995م.
4 – مجموعة الفتاوى، شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني، خرج أحاديثها، عامر الجزار، أنور الباز، مجلد: 13،ص: 8، مكتبة العبيكات، الطبعة الأولى، 1419ﻫ/1998م. وينظر دراسات في أنواع التفسير من البعثة النبوية إلى زمن ابن جرير، ج.1، ص: 168.
5 – قصة التفسير، ص:45.
6 – شرح مقدمة في أصول التفسير، ص: 281.
7 – دراسات في التفسير، مصطفى زير، ص: 21.
8 – دراسة في أنواع التفسير القرآني من البعثة النبوية إلى زمن ابن جرير الطبري، التفسيرات النصية، محمد عبادي، إشراف، التهامي الراجي الهاشمي، ج: 1، ص: 161. رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، (وهي مرقونة بخزانة مؤسسة دار الحديث الحسنية، الرباط، تحت رقم: ر 70).
9 – قصة التفسير، ص:46.
10 – مقدمة في أصول التفسير،ص: 57.
11 – البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج: 2، ص: 156.
12 – محاضرات في علوم القرآن، ص: 167.
13 – بحوث في علوم التفسير والفقه والدعوة، ص: 150.
14 – أثر عبد الله بن عمر في التفسير، أحمد مناف حسن القيسي، ص: 46.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>