إلى أن نلتقي – بين ثقافة «الأنا» وبين ثقافة «الأثر»


يُثار في كثير من الأحيان في المسابقات الثقافية أو ما شابه ذلك أسئلة عن مخترع كذا وكذا من الأشياء، ومن هو أول من فعل كذا من الأعمال؟؟ وعادة ما تكون الإجابات تشير إلى الرواد الغربيين الذين اخترعوا ما اخترعوه في مجال التقنية الحديثة أو العلوم بصورة عامة.
ومما يلاحظ أيضا أن بعض الغيورين –ولهم الحق في ذلك– كثيرا ما يحاولون إرجاع العديد من الاختراعات والأعمال أو حتى الأفكار إلى أسماء عربية إسلامية ممن كانت لهم بصمات واضحة في تاريخ الحضارة الإسلامية خصوصا والإنسانية بصورة عامة.
لكن لماذا لم يكن هؤلاء الأولون من حضارتنا الإسلامية يهتمون ب «أنفسهم» فينسبون ما اخترعوه إلى أنفسهم ويضعون أسماءهم عَلَماً عليها، أو أن يفعل ذلك أبناء هذه الحضارة فينسبون تلك الاختراعات أو الأعمال إلى أصحابها؟؟ ومن ثَم يبرزون مكانتهم في مجتمعهم ويخلدون ذكرهم في التاريخ.
الجواب هو الفرق بين ثقافة «الأنا» وثقافة «الأثر».
ثقافة الأنا تهدف إلى الاستئثار بالإنتاج والإبداع، فلا إبداع ولا إنتاج يمكن أن يكون له شأن إلا ما أنتجته «الأنا» وإلا ما يُرى عبر هذه «الأنا». نعم قد يكون الـمُنتَج يجوب بقاع الأرض وتنتفع به البشرية جمعاء، لكن المرجع يعود دائما لأصحابه الأصليين على الأقل في صورتين كبيرتين:
- الصورة الأولى معنوية وتبدو بشكل أساسي في الأسماء التي تحملها بعض المنتجات والتي هي في الأصل لمبتكريها أو الذين أنتجوها أول مرة كالأسماء التالية: «واط» – «فولت» – «أمبير» – (للكهرباء) – «مرسيدس» (السيارة) – «بيك» (قلم الحبر المعروف) – «جيليت» (آلة الحلاقة) – «ديزل» (محرك ديزل) – «سنجر» (آلة الخياطة) .. إلخ.
- الصورة الثانية تبدو في الاحتكار أو ما يشبه الاحتكار للكثير من «أسرار» هذه المنتجات والصناعات، بالإضافة إلى حق الإنتاج الذي لا يُمَكِّن الآخر من إعادة إنتاجه إلا بشروط، قد تكون أحيانا تعجيزية.
صحيح أن هاتين الصورتين تبدوان طبيعيتين، وخاصة الثانية منهما، وذلك بالنظر إلى الواقع الاقتصادي المعاصر الذي يقوم على المنافسة ومحاولة الربح السريع والكبير في ذات الوقت، ولأن هذه الأمور لم تكن حاضرة عند القدماء، لكن مع ذلك، خلفية الأنا حاضرة في التقنين لهذه التصورات، وبذلك تبدو مصلحة الأنا مُقدَّمة على مصلحةِ المجتمع ونفعِه مهما كان الحال.
وفي المقابل فإننا حينما نعود إلى تاريخ الصناعات عند المسلمين، فإننا لا نعرف بالضبط من صنع العديد منها، أو على الأقل أنها لا تحمل أسماء صانعيها، فلو أخذنا على سبيل المثال صناعة الساعات لوجدنا أن الساعة البوعنانية التي كانت منتصبة في زقاق الطالعة الكبرى بفاس، وكذلك ساعة جامع القرويين، ثم الساعة التي قيل إن هارون الرشيد قد أهداها إلى الملك شرلمان، وغيرها من الساعات التي ذكرها المؤرخون والرحالة، لا تحمل أسماء من أبدعوها أو طوروها، لا لشيء إلا لأن ثقافة «الأثر» كانت سائدة مقارنة مع ثقافة «الأنا».
وهناك نموذج أكثر بساطة كثيرا ما يثار الجدل حوله في العصر الحاضر حينما يحيل المرء في أبحاثه العلمية على كتاب من الكتب، ففي الوقت الذي تُعْتَمَد فيه الإحالة على الكتاب (الأثر) في الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، فيقال مثلا: إن موضوع كذا وكذا موجود في الكتاب الفلاني، لفلان الفلاني صفحة كذا وكذا، نجد في المقابل عكس ذلك في الثقافة الغربية، حيث إن الإحالة تكون على صاحب الكتاب (الأنا)، فيقال إن الموضوع كذا يوجد عند فلان الفلاني في كتابه كذا وكذا… مما يعني أن هناك فرقا بين المنظورين، منظور ثقافة «الأنا» ومنظور ثقافة «الأثر».
طبعا ليس المقصودُ التنكّرَ لما قدمته الحضارة الحديثة من خدمة للإنسان، أو التقليل من قيمتها، ولكن الغرض إبراز الخصائص الثقافية لكل حضارة، تلك الخصائص التي قد تبدو بسيطة في بعض الأحيان، لكنها تحمل خلفها قيما ومبادئ كبرى قلما يُنتبه إليها.

د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>