فقه الأقليات المسلمة ورسالته في حل معضلات الحياة في المجتمعات غير الإسلامية ( 2)


إن المسلمين في المجتمعات غير المسلمة وخاصة في بلاد الغرب أخذوا يحسون –نتيجة أسباب وعوامل كثيرة ذاتية وموضوعية- بانتمائهم للإسلام ويشعرون بهويتهم الحضارية، فشرعوا في تأسيس مؤسسات في مختلف المجالات دينية كانت، أم ثقافية، أم اجتماعية، أم اقتصادية، أم سياسية… تحفظ لهم كيانهم ووجودهم، وتصون لهم كرامتهم وحرياتهم، فأسست تبعا لذلك مساجد ومراكز، ومدارس، ومعاهد وكليات وجامعات، ومنظمات، ومجالس…
وفي كتاب “الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم” للدكتور علي المنتصر الكتاني –رحمه الله- صورة واضحة لأهم هذه الإنجازات بدءا بإنشاء المساجد، ومرورا بتأسيس المراكز وانتهاء بتأسيس حزب إسلامي نال عضوية بعض المجالس البلدية.
إن المسلمين في بلاد غير المسلمين وخاصة في الغرب مروا بمراحل: مرحلة الشعور بالهوية، ثم مرحلة الاستيقاظ والتحرك، ثم مرحلة التجميع والبناء، ثم مرحلة التوظيف والتفاعل أو الاندماج الإيجابي في هذه المجتمعات.
ويرى الدكتور يوسف القرضاوي أن المرحلة التي يوجدون فيها هي مرحلة التفاعل الإيجابي مع المجتمع، فلا مجال في هذه المرحلة للعزلة والانكفاء على الذات والحذر من مواجهة الآخرين، فقد غدت الأقليات المسلمة واقفة على أرض صلبة، واثقة من نفسها، معتزة بذاتها، قادرة على التعبير عن هويتها، والدفاع عن كينونتها، وإبراز خصائصها، وتقديم ما عندها من رسالة حضارية للبشرية.
وهي في هذه المرحلة تستكمل مؤسساتها العلمية، والتربوية، والدعوية. فقد كانت في وقت ما معنية أبلغ العناية بإنشاء المساجد، وكانت ضرورية، لأنها المؤسسة الأولى في المجتمع المسلم.
ثم تطورت فأصبحت تعنى بإنشاء المدرسة ليتعلم فيها أبناء المسلمين أصول دينهم، ثم تطورت أكثر فأصبحت تعنى بالمعاهد العليا والجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية لتخريج الإمام، والداعية، والمعلم المؤهل المعاصر، والعالم الذي ينهل من الثقافة الإسلامية الأصلية، ويعيش في عصره وتياراته، ومعارفه، ومشكلاته وتطوراته…(1)
إن الحديث عن هذه المراحل لا يعني بالضرورة أن هناك فصلا بينها بل إنها تتداخل وتتكامل.
وإن الانتقال من مرحلة إلى أخرى لا يعني أيضا إلغاء المرحلة السابقة بل تظل مستمرة وحاضرة بخصائصها ومواصفاتها، وإنما تعطى الأولوية للواجب المؤقت بحسب ما تمليه المرحلة، وإن كنت أرى أن المرحلة الأولى هي صمام أمان المراحل الأخرى، وأن هذه الأخيرة متوقفة عليها.
كما أنني أرى أن تطبيق معادلة التحصين أولا ثم الاندماج ثانيا إن صحت من الناحية النظرية، فإنها لا تصح من الناحية العملية لذا وجب الجمع بينهما.
إن اهتمام العلماء المسلمين بفقه الأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة –وهذا عنده ما يسوغه- لم يكن بالدرجة التي تناولوا بها فقه الأقليات غير المسلمة في المجتمع المسلم ولا بمستوى الكتابات التي عالجت القضايا المتعلقة بأهل الذمة.
وقد وعت الأمة حجم التقصير الحاصل في هذا الفقه، فعمدت حديثا إلى التنبيه على الواجب المطلوب المتمثل في حاجة هذه الفئة إلى فقه يستوعب مسائلها وقضاياها، وما استجد في حياتها.
ولست أقصد بالفقه ذلك المفهوم الخاص المتمثل في العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية، وإنما أعني به ذلك المعنى العام المستوعب لجميع الأحكام المتعلقة بمختلف جوانب الحياة الإيمانية والسلوكية والعملية… وهو المقصود في الآية الكريمة وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (التوبة: 123). وفي قوله : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»(2).
وهو الذي ارتضاه الصحابة، والتابعون، وجمهور الأئمة قبل أن يتصرف فيه بالتخصيص، ويضيق دائرة استعماله، ويخص بأحكام الفروع.(3)
إن الفقه الذي ننشده لهذه الفئة المسلمة في المجتمعات غير المسلمة يجب أن تراعى فيه مجموعة من الضوابط منها:
أ – أن يستمد من مصادره المعتبرة.
ب – أن يبنى على مراعاة مقاصد الشريعة، وقواعدها الكلية، والموازنة بين المصالح بعضها مع بعض، والمفاسد بعضها مع بعض والمصالح والمفاسد.
ج – أن يراعى فيه مبدأ التيسير، ورفع الحرج، والتخفيف، ودفع المشاق.
د – أن يؤخذ فيه بعين الاعتبار واقع المسلمين في هذه البلاد غير المسلمة.(4)
هـ – أن تراعى فيه سنة التدرج في تنزيل الأحكام وفق ما تتطلبه ظروف هذه الفئة وأحوالها.
و – أن يراعى فيه فقه الاختلاف تأليفا للقلوب وجمعا للكلمة.
إن من جملة القضايا التي شغلت بال الكثير من إخواننا في المجتمعات غير المسلمة، وما زالت تشغلهم وعقدت لها ندوات ودورات، وقدمت فيها بحوث ودراسات، وأنجزت فيها رسائل وأطاريح، وصدرت فيها فتاوى وأحكام سواء عن الجهات الرسمية أو غير الرسمية:
- قضية الإقامة في المجتمعات غير المسلمة.
- وقضية الحصول على جنسية تلك البلاد.
- وقضية الأطعمة والأشربة المقدمة من قبل غير المسلمين…
- وقضية العمل في المحلات التجارية والصناعية التي فيها المحرمات.
- وقضية المشاركة السياسية أو الانتماء إلى الجمعيات والأحزاب غير المسلمة.
- وقضية المعاملات المالية كالتأمينات وغيرها من القضايا التي استأثرت باهتمام إخواننا في الداخل والخارج.
ولقد أسهمت المؤسسة الدينية –والمسجد على رأسها- في معالجة كثير من هذه القضايا، والإجابة عنها، وإن وقع الاختلاف في بعضها بناء على أدلة صحت عند طرف، ولم تصح عند الطرف الآخر، واحتمالات رجحت عند بعض ولم ترجح عند البعض الآخر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المسلم في هذه المجتمعات غير المسلمة حريص على إرضاء ربه، وعدم الخروج عن احكامه، وحريص أيضا على معرفة الحلال والحرام واتقاء الشبهات والنصح لإخوانه…
كما أسهمت هذه المؤسسة الدينية في تحصين المسلم في المجتمع غير المسلم وتربيته على الطاعة، وامتثال الأمر والنهي، وأسهمت أيضا في رسم معالم الاندماج الرشيد.
و أسهمت في التعريف بأحكام الشريعة عقيدة ومنهاجا ثقافة وأخلاقا وأسهمت في التنبيه على الأخطار المحدقة بالمسلم في مجالات الأسرة، والمعاملات المالية وغيرها…
وأسهمت في توحيد الرؤى بين العاملين في الحقل الدعوي، وأسهمت في إشاعة روح الأخوة بينهم.
وأسهمت في ترشيد الخلاف.
وأسهمت في ضبط علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم والشعوب.
وأسهمت عموما في إسداء النصح لله، ولكتابه، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين، وعامتهم بل للناس جميعا، وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين (الأنبياء: 107).

د. زكرياء المرابط
————————
1 – في فقه الأقليات المسلمة حساة المسلمين وسط المجتمعات الأخرى، ص: 23-24.
2 – صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا، رقم الحديث 71.
3 – ينظر إحياء علوم الدين، باب ما بدل من ألفاظ العلوم 1/43-44.
4 – ولعل العلماء المسلمين بدءا بجيل التأسيس من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وانتهاء بالعلماء الربانيين كانوا أدرى بواقعهم من كثير من علماء الأمة اليوم، وقد قعدوا لذلك قواعد وضوابط.
إن مراعاة هذا الواقع هو الذي جعل إمام دار الهجرة مالكا رحمه الله يصبر عمل أهل ا لمدينة أصلا من أصول التشريع وهو الذي جعل الإمام الشافعي ينشئ مذهبه الجديد في مصر..
ولكن جرت الرياح بعد ذلك لما لا تشتهي السفن، وتصدر للعلم والافتاء من لا يفقه واقعه فضل وأضل فغلى الله  المشتكى.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>