صـفـة الـخـيـر وتجـلـيـاتـهـا


ما بثه علماؤنا الكرام في ثنايا كتبهم عن الخير ومتعلقاته شيء كثير جدا، لا يسعنا معه الاقتضاب والاجتزاء؛ بل لا بد فيه من الغوص العميق للظفر بما يفوق اللؤلؤ والمرجان حسنا وشأنا، وحسبي في هذا العمل المتواضع، أن ألمح إلى مفهوم الخير، ثم أشير إلى تجلياته في نفوس العباد.
وبدأت بحديث رسول الله الذي رواه الإمام ابن ماجة عن معاوية بن أبي سفيان ، عن رسول الله أنه قال: «الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(1).
والمعلوم عند العرب أن العادة تستعمل في الخير، قال الإمام المناوي نقلا عن العامري في شرح الشهاب: “وأكثر ما تستعمل العرب العادة في الخير وفيما يسر وينفع”(2).
واللجاجة التمادي(3) أما الخير: فهو اسم تفضيل على غير قياس، وهو ضد الشر(4)، والخير: وجدان كل شيء كمالاته اللائقة، والشر ما به فقدان ذلك(5).
ومن هنا اتُّخذ الجزء الأول من الحديث مثلا اشتُهر بين الناس. فقد أورد الإمام الميداني في المثل رقم 1325 “أن الخَيْر عَادَة وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ”، ثم ساق معناه فقال: “جعل الخير عادة لعَوْدِ النفس إليه، وحرصها عليه إذا أَلِفَتْه لطيب ثمره وحسن أثره، وجعل الشر لَجَاجة لما فيه من الاعوجاج ولاجْتِوَاء العقل إياه”(6).
يقول المحقق الكبير محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى وهو يشرح معنى (الخير عادة): إن المؤمن الثابت على مقتضى الإيمان والتقوى ينشرح صدره للخير، فيصير له عادة؛ ذلك لأن الإنسان مجبول على الخير، قال الله تعالى: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (الروم: 30). وأما الشر فلا ينشرح له صدره، فلا يدخل في قلبه إلا بلجاجة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. واللجاجة: الخصومة(7).
وقد أكد الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في سياق حديثه عن الرخص والعزائم أن هذا الأمر الذي نحن بصدد الحديث عنه “مشاهد محسوس، لا يحتاج إلى إقامة دليل”(8). ومن ثم فإن الخير فطرة في الإنسان، والشر فيه أمر طارئ؛ لكن لماذا نرى الناس أحيانا يتعمدون السير في طريق الشر مع أنهم خلقوا لأجل فعل الخير؟
يجيب الإمام الشاطبي عن هذا فيقول: “فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره، فالخير هو الذي خلق الخلق لأجله، ولم يخلق لأجل الشر، وإن كان واقعا به”(9)، كما أنّه قدّم في هذا السياق مثالا نقله عن الفلاسفة مفاده أن “الطبيب إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه؛ بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة”(10).
وبهذا المعنى فإن للتحلي بصفة الخير أثر طيب على نفسية الإنسان؛ لأن هذه الصفة ترتبط بعقيدة المؤمن، ذلك أنه يعلم أن الله تعالى أمر بها، كما حث عليها رسول الله . ولهذا نجد المؤمنين يتحلون بهذه الصفة، فكانت نفوسهم طيبة وصدورهم منشرحة، فهم يعيشون السعادة في الدنيا نتيجة هذه الصفة الجميلة. أما أولئك الذين ارتدوا واتبعوا طريق الشر فإن حياتهم تصبح ضنكا. قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (طه: 124)، يقول الإمام الشوكاني في تفسير الآية: فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكا، أي: عيشا ضيقا(11).
فإلى كل من يريد أن يعيش عيشة طيبة نقول تحلى بالخير، فإن أثره عليك عظيم، ومن أحسن ما سمعت من الشيخ النابلسي قوله: كلما أحسنت نيتك أحسن الله حالك، وكلما تمنيت الخير لغيرك أتاك الخير من حيث لا تحتسب. وعندما تعيش لتسعد الآخرين يرزقك الله بآخرين ليسعدوك، فابحث عن العطاء لا الأخذ، فكلما أعطيت كلما أخذت دون أن تطلب.
رشيد رزقي
—————
1 – سنن ابن ماجه: كتاب بَابُ فَضْلِ الْعُلَمَاءِ وَالْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، حديث رقم221، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي الناشر: دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى البابي الحلبي.
2 – فيض القدير شرح الجامع الصغير المؤلف: زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031هـ)ج3،ص510،الناشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر،الطبعة: الأولى، 1356ه.
3 – لسان العرب: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711هـ)ج2،ص228،الناشر: دار صادر – بيروت،الطبعة: الثالثة – 1414 هـ.
4 – القاموس الفقهي لغة واصطلاحا: الدكتور سعدي أبو حبيب، ص127، الناشر: دار الفكر. دمشق – سورية، الطبعة: الثانية 1408 هـ = 1988 م.
5 – الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية: أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفى: 1094هـ)ص423،المحقق: عدنان درويش – محمد المصري،الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت.
6 – مجمع الأمثال: أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري (المتوفى: 518هـ) ج1، ص247، المحقق: محمد محيى الدين عبد الحميد،الناشر: دار المعرفة – بيروت، لبنان.
7 – كلام المحقق محمد فؤاد عبد الباقي في حاشية شرح سنن ابن ماجه:حديث رقم 221 ج1،ص80.الناشر: دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى البابي الحلبي.
8 – الموافقات: الشاطبي (المتوفى: 790هـ) ج1، ص508، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
9 – الموافقات: ج2، ص49.
10 – نفسه: ج2، ص49.
-11 فتح القدير: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني،ج3،ص462،الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت،الطبعة: الأولى – 1414 هـ.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>