حجر الزاوية في الإيمان


إن التعريف الاصطلاحي للإيمان الذي ورد في حديث جبريل \ حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال : ((الإيمَانُ أن تُومِنَ باللَّهِ ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِه واليَوْمِ الآخِر وتُومِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّه)) قال جبريل \ ((صَدَقْت))(جزء من حديث رواه مسلم) هو التعريف الجامع المانع والشامل الكامل، إلا أن وروده في القرآن بترتيب آخر يوحي بأهمية الأولوية الواردة في السياق الذي وردَتْ فيه، مما يعطي انطباعاً بأن في البناء الإيماني حَجَرَ الزاوية وعُمدةَ البناء، والسُّور المساعدَ في البناء للربط بين الزاوية والأسوار قصْد تكوين بناءٍ متكامل يسُرُّ البصيرة المنوّرة بنور الله، ويسُرُّ العقل القادِر على التمييز بين الرأس والأعضاء، وبين الغاية والوسيلة، وبين الأساس ولبنات البناء.
وأساس البناء في أركان الإيمان هو : الإيمان ((بالله تعالى)) على أساس :
1- أنه خالق الإنسان ورازقه، وراعيه، ومدبّر شأنه كله، وهو مُحييه ومميتُه، وهو العالم بظواهره وبواطنه، وهو مراقبه ومحاسبه ومُجازيه.
2- أنه خالقُ الكون له، ومسخرُه له {يَا أَىُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُم الذِي خَلَقَكُمْ والذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذِي جَعَلَ لكُم الارْضَ فِراشاً والسّمَاءَ بِنَاءً وأنْزَلَ منَ السَّمَاءِ مَاءً فأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَراتِ رِزْقــاً لكُـــــمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للَّهِ أنْـــدَاداً وأنْتُـــــمْ تعْلَمُون}(البقرة : 20)، {والانعامَ خَلَقَها لكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ومنَافِعُ ومِنْهَا تَاكُلُون}(النحل : 4)، {وإنَّ لكُمْ فِي الانّعَامِ لعِبْرةً نسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بيْن فَرْثٍ ودَمٍ لبنا خَالِصاً سَائِغاً للشَّارِبِين ومِنْ ثَمَرَاتٍ النّخِيلِ والاعْنَابِ تتّخِذُون مِنْهُ سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً إنّ فِــي ذَلِك لآية لقَوْمٍ يعْقِلُون}(النحل : 65).
3- أنه وحْده سبحانه وتعالى القادِرُ على معرفة مصلحة الإنسان الحقيقية الآنية والمستقبلية، لأن علمه تعالى شامل للغيب والشهادة، ولأنه تعالى منزه عن الغرض والهوى لغناه عن كل مخلوق، فلا يحتاج إلى نفع من مخلوق، ولا يخاف من ضر أي مخلوق، فهو ((الصَّمَد)) الذي لا يحتاج لشيء ويُحْتاج إليه في كل شيء : {يَا أيُّها النّاسُ أنْتُمْ الفُقَرَاءُ الى اللَّهِ واللّهُ هُوَ الغَنِيّ الحَمِيدُ إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ ويَــــاتِ بخَلْقٍ جَدِيدٍ ومَـــا ذَلِكَ علَى اللَّهِ بعَزِيز}(فـاطر : 14).
4- أنه المعبود بحق : أي أنه وحده الذي يستحق أن يُعْبد بحق، لأنه الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، ولأنه مصْدَرُ كُلّ خلْقٍ، وكل كائن، وكل عِلم، وكل رزق، وكل قدرة، وكل توازن في الكون والإنسان، فكيف يُعبَدُ غيرُه وليس بيده شيء، بل لا يستطيع أن يعرف حتى مصلحتَه وما يضره وما ينفعُه؟! إن ذلك هو السفه، والحُمْق والعُقوق الأكبر لربِّ الإنسان الذي ربّاه، حيث يترك الإنسان عبادة ربِّه ويعبد المربُوب لله، سواء كان حجراً أو بقراً أو شجراً أو بشراً متألها؟!.
إذن فحجَرُ الزاوية في الإيمان هو الإيمان بالله لما بيّنّاه سابقا، ويأتي في المرتبة الثانية : ((الإيمانُ باليَوْمِ الآخِر)) بوصْفِه يوم الوقوف بين يَدَيْ رب العالمين لتقديم الحساب على عمله في الدنيا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرٌّ. فلتوضيح هاتين الركيزتين الأساسيتين في الإيمان كان القرآن مليئا بالأدلة الحسية والعقلية، والوجدانية على وجود الله تعالى، وأحقيته بالعبادة، وكان مليئاً أيضا بالأدلة التي تثبت أن الإنسان لا ينتهي عند الموت، بل سيُبْعثُ ويحيا من جديد للمحاسبة، ثم يُخلَّدُ إما في النعيم أو في الجحيم، لأنَّ الإنسان الأصَمَّ الأعمى الأبكم المرتبط بالتراب فقط يصعب عليه السموُّ إلى الآفاق الروحية والعلمية سواء في عهد محمد صلى الله عليه وسلم أو في عهود من سبقه من الأنبياء والمرسلين، فهُم كما قال الله تعالى فيهم : {وإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُون وإذاَ رَأَوْا آيَةً يسْتَسْخِرُون(1)، وقالُوا : إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ أَاذَا مِتْنَا وكُنّا تُرابًا وعِظَاماً إنّا لمَبْعُوثُون؟! أو آبَاؤُنَا الاوَّلُون؟} فكان جواب الله تعالى : {قُلْ نَعَمْ وأنْتُمْ دَاخِرُون(2) فإنَّمَا هِي زَجْرَةٌ(3) واحِدةٌ فإِذَا هُمْ يَنظُرُون(4)}.
ثم يصوّر الله تعالى نَدَمهُم في ذلك الموقف العظيم {وقَالُوا : يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ الذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون}.
ثم يأتي الفصلُ والقضاءُ وتسيير المجرمين الظالمين إلى مقامِهم ومصيرهم ليجْنُوا ثمرة أعمالهم {احْشُرُوا الذِينَ ظَلَمُوا وأزْوَاجَهُم(5) ومَــا كَانُوا يَعْبُدُون مـــن دُونِ اللَّهِ فاهْدُوهُــــم إلـــى صِراطِ الجَحِيمِ وقِفُوهُمْ إنّـــهُــم مسْــؤُولُون مــا لكُمْ لا تَنَــاصَرُون..}(الصافات : 21- 25).
بل نجد أن الله تعالى لم يكْتفِ بإظهار الصُّور الإنسانية الحيّة -بعد البعث- وهي تُولْوِل وتَتَحَسَّر وتُلْقِي اللوم على هذا أو ذاك، وتتمنى الرجوع للدنيا لإصلاح العمل بعد ما تيقَّنَتْ بالبعث عياناً، ولكن نجد الله سبحانه وتعالى -لرحمته بالإنسان الثقيل الفهم، البليد الحس والشعور- يَدْعو الإنسان المتشكك لاستعمال عقله إمّا عن طريق القياس، أي قياس غائبٍ على محسوسٍ مشاهَدٍ في حياة الإنسان بصفة مستمرة، وإمّا عن طريق المعجزات التي أجراها الله تعالى على يد الأنبياء والأمم السابقة التي أثبتتْ وقوع الحياة بعد الممات، فرأى الناس ذلك، وتم تسجيلها في الكتب السماوية السابقة، ثم سُجّلت في القرآن الوثيقة الصحيحة الأخيرة لجميع الرسالات والهدايات.
فمن الأول :
أ- قول الله تعالى : {وترَى الارْضَ هَامِدَةً فإذَا أنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزّتّ وربَت وأنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بهِيجٍ ذَلِك بأنّ الله هو الحَقُّ وأنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وأنَّهُ على كُلِّّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْب فِيها وأنّ اللّه يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُور}(الحج : 4، 5)، فمن أحْيى الأرض بماء الحياة قادِرٌ على أن يُرجع إليه الحياة التي منحه إياها ليعيش بها في الدنيا.
ب- قول الله تعالى : {وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ قال منْ يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيها الذِي أنْشَأَهَا أوَّلَ مرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم}(يس : 76)، فمن أنشأ الإنسان من العدم كيف يعجز عن إحيائه من جديد؟!.
جـ- قال الله تعالى في أصحاب الكهف : {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثمَّ بَعَثْنَاهُمْ لنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْن أحْصَى لِمَا لَبِثُوا أمَداً}(الكهف : 10) أي أنامَهم نوما يشبهُ الموت ثم أيقظهم بعد سنين للدلالة على أن النوم كالممات، وأن اليقظة كالبعث، وقال مبيناً الحكمة الواضحة في جعْل الناس يعثُرون عليهم {وكَذَلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِم ليَعْلَمُوا أنّ وعْدَ اللَّه حَقٌّ وأنّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا}(الكهف : 20).
ومن الثاني :

أ- قول الله تعالى : {أوْ كَالذِي مَرّ على قرْيَةٍ وهِيَ خَاوِيةٌ علَى عُرُوشها قال : أنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأَمَاتَهُ اللَّهُ مائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ…}(البقرة : 257 إلى 258) فقد تعجب واستبعد إحياء القرية الميتة فأعطاه الله عز وجل المثل من نفسه.
ب- قول الله تعالى : {وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُون، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلكَ يُحْيِي اللَّه الموْتَى ويُرِيكُمُ آيَاتِهِ لعَلَّكُمْ تَعْقِلُون}(البقرة : 70).
إذا عرفنا أن ركيزتي الإيمان هما : الإيمان بالله واليوم الآخر، أدركنا السرّ في إتيان القرآن بهما -أحيانا- مُرتَّبَيْن على حسب الأولوية التي شرحناها سابقاً من ذلك : قول الله تعالى : {ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا باللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِر ومَا هُمْ بِمُومِنِين}(البقرة : 7) وقول الله تعالى : {لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِن البِرُّ مَن آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِر..}(البقرة : 175). وما ذلك إلا :
1) لأنّ ما بعد الأساسين الأولَيْن مجرَّدُ وسائط لتحقيق الأساس الأول وهو عبادة الله عز وجل المستحق -وحده- للعبادة من جهة. ومن جهة أخرى لجَنْي الثمار -ثمار الطاعة والعبادة- في الأساس الثاني وهو اليوم الآخر. أما الملائكة فهم جنود الله تعالى وسفراؤه بينه وبين رسله، وأما الرسل فهم حملة رسالة العبادة الشاملة لكل نشاط. وأما الكتُب فهي أوعية الشرائع والدساتير والأخلاق بدلائلها وحِكمها. أما القدَر فهو تقدير الله تعالى -في الأزل- لما كان ويكون وسيكون في غَيْبٍ عن كل كائن، والواجب الإيمان، والرضى به إذا نزل ووقع في الوقت المقدر له.
2) لأن الإيمان بهما إيماناً يقينيا هو الذي يكفُل -بالتأكيد- كل ما بقي من البناء الديني : إسْلاماً بكل أركانه ومعاملاته وأخلاقه.. وإحساناً في كل جانب من جوانب البناء الإسلامي، وحراسة للدين من كل الأخطار المتربصة به.
المفضل فلواتي رحمه الله تعالى
———-
1- يستسخرون : يسخرون ويهزأون من الرسول الذي يدكِّرهم بيوم الآخرة وينصحهم بالاستقامة حتى لا يندموا، مبرِّرين استهزاءهم بأن ما شاهدوه من الآيات والمعجزات هو مجرد سحر، وهذا اعترافٌ منهم بالعجز عن إدراك الحقائق العلمية، والسمو إلى الآفاق الروحية.
2- داخرون : أذلة صاغرون.
3- زجرة : صيحة واحدة من الملك المكلف بذلك.
4- ينظرون : ينظر بعضهم إلى بعض منتظرين ماذا سيُفعل بهم كالمجرمين عندما يفقون مصفدين في المحاكم.
5- وأزواجهم : أصنافهم وأشياعهم في الشرك والفسوق الزاني مع الزاني، والسكير من مع السكير، والسارق مع السارق، فكل صنف مع شبيهه وقرينه..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>