مهددات عملية في طريق الأسرة المسلمة: سياق ووسائل وأغراض


تمهيد :

دخلت الأمة المسلمة عبر تاريخها المديد، ومنذ أن قام لها كيان على وجه هذه الأرض، في صراع شرس ومرير، مع من ناصبها العداء، من أصحاب الملل والنحل، والمذاهب والتيارات، الذين كانوا يستهدفون كسر شوكتها وإذهاب ريحها، راكبين لأجل ذلك ما استطاعوا من وسائل وحيل، المادي منها والمعنوي، غير أن سعي تلك القوى المناوئة غالبا ما كان يؤول إلى خيبة، وفلولهم إلى فشل واندحار، بسبب تماسك كيان الأمة الذي تشده آصرة الدين القيم، وتحرسه شبكة متينة من الأحكام والآداب والقيم.

ولم تتطرق عوامل الضعف والوهن إلى جسد الأمة، بالحجم الذي أدى إلى شل كثير من أجهزته، وتعطيل جل وظائفه، أو إصابتها بالاختلال، إلا في العصور الحديثة التي سخرت فيها الدول الغربية التي مثلت ظاهرة ما يسمى بالاستعمار، ما تفتقت عنه عقليتها من أساليب المكر والتخريب، سواء في ذلك مرحلة الاستعمار المباشر أو غير المباشر، الذي انسحب فيه شبحا من الباب، وخطط له ليترسخ روحا، بعد عودته عبر النوافذ المتعددة وليس النافذة الواحدة.

ومن أخطر النوافذ التي نفذ منها المستعمر الغاشم، ليسرب سمومه وإشعاعاته المدمرة، نافذة الأسرة التي خصص لها قسطا هاما من جهده ونصيبا من مخططاته، إيمانا منه بأن اقتحام حصن الأسرة والعبث بمحتوياته، وخلط ملفاته وأوراقه، كفيل بحرق المراحل في اتجاه تقويض دعائم  كيان الأمة المسلمة، وفي أحسن الأحوال، إلحاق تشوهات منكرة به، وطمس معالمه، إلى الحد الذي ينكره من هم أقرب عهدا به من الآباء، لو قدر لهم أن يطلوا عليه من العالم الآخر.

ولئن بقيت خمائر وبقايا من الكيان الأصيل، تحمل آثار الحرب الضروس والحملات الهوجاء، فإن قوى البغي الاستعماري لن يهنأ لها بال بحكم قانون الصراع والعداء، إلا والكيان أطلال وأنقاض، والجسم أشتات وأشلاء. فهي تسلك لذلك مداخل متنوعة تحت عناوين وتسميات شتى، ولكنها تصب في الهدف الذي انتدبوا أنفسهم لتحقيقه، ووصلوا لأجله الليل بالنهار، ألا وهو امتصاص دم الأمة المسلمة، ثم التهامها لحما وعظما، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فما هي تلك المداخل أو المهددات التي تقف في طريق الأمة المسلمة؟ وما هي الوسائل المتذرع بها لجعلها واقعا مفروضا؟

1- الحملة على حصن الأسرة المسلمة :

لقد أدركت القوى المعادية للأمة المسلمة، بجميع أذرعها وأقطابها، أن بلوغ استراتيجيتها مراميها بالدقة المنشودة، رهين بتغيير التصورات والمفاهيم المتعلقة بالأسرة، باعتبارها الكيان الاجتماعي المركزي الذي يتمحور حوله الوجود المجتمعي بجميع مناشطه واختصاصاته، وذلك بفضل ما تضطلع به من وظائف حيوية تتصدرها وظيفة التنشئة وبناء الأجيال التي تؤمن استمرارية المد الحضاري الأصيل والمتميز للأمة، فهي  تمثل صمام الأمان لحماية الأمة من التفكك والاختراق.

لقد جعلت القوى الغازية نصب عينيها أن تكون مرحلة تغيير التصورات والمفاهيم المتعلقة بالأسرة في العالم الإسلامي” تتويجا” لمرحلة الاحتكاك الذي حصل بينها وبين مجتمعاته إبان مرحلة الاستعمار المباشر التي أدت دورها كاملا في اختراق أنماط العيش والسلوك للأسر المسلمة، وجعلها عن طريق آلية الانبهار والتقليد، تنسلخ منها تدريجيا، ليحل محلها تدريجيا، أيضا، نمط العلاقات الاستعماري بين أفراد الأسرة بشكل خاص، ونمط الحياة الاجتماعية بشكل عام.

لقد كانت أولى نتائج احتكاك المستعمر بالمسلمين أن تعرت نساؤهم من زينة اللباس باسم المدنية والتحرر، بعد انتهاء عملية الكمون والاختمار، فأصيبت المرأة في حجابها، وأصيب معها المجتمع في مقتل، وكان ذلك بداية الانحدار نحو الانسياق وراء تصورات المستعمر في مرحلة لاحقة.

لقد كان من شأن الغزوالفكري الذي مورس على الأسرة المسلمة أن استهدف الرجل والمرأة والأولاد، بغية تفكيكها وتشتيت شملها، فكان لكل من هؤلاء نصيبه الكامل، مع اختصاص المرأة بقسط إضافي تفضيلي، نظرا لدورها المركزي والحيوي في إحداث التغيير المنشود من قبل مراكز التغريب.

لقد ألقي في روع المرأة بطرق خبيثة ماكرة، أنها ند للرجل ومساوية له، ليس في الكرامة والإنسانية والاعتبار والأحكام كما يقول لها الإسلام، وإنما في كل شيء، ضدا على الفطرة والواقع، وأن عليها أن تناضل باستماتة وتصارع بشراسة، لتنتزع حقها المزعوم في المساواة المطلقة، فلا قوامة للرجل زوجا عليها ولا طاعة له عليها.

وترتب على مفهوم المساواة بالشكل الذي تم التقاطه من أفواه المستعمرين، والترويج له وتثبيته من قبل وكلائهم من بني جلدة المسلمين، أن يكون من حق المرأة أن تغشى جميع الوظائف والأعمال التي يغشاها الرجال، بلا تعقيد ولا حرج، ولو أدى ذلك إلى ابتذالها والانتقاص من شرفها وكرامتها، أو إلى العدوان على الزوج والأولاد، وحق المجتمع في الأمن الأسري والاجتماعي، والأمن القيمي والأخلاقي الذي يمثل عنوان الأمة الحضاري بامتياز.

وليس بخاف عن أولي الألباب، ارتباط  التصورات المنكوسة السابقة بفيروس خطير عملت قوى الاستعمار على زرعه وتعهده في جموع المسلمين، إنه فيروس النزعة الفردانية الليبرالية التي تقضي وفق فلسفة الغرب ورؤيته “للحياة” بأن يكون كل فرد داخل المجتمع، ومن ثم داخل الأسرة عالما معزولا عن العوالم الأخرى، باسم الحرية التي تعني في عرفهم الفعل الطليق، الذي لا أثر له في واقع الحياة، فضلا عن كونه منافيا لمنطق العقل.

وكما استهدفت آلة الغزو الثقافي والفكري بسمومها قطبي الأسرة: الرجل (الزوج) والمرأة (الزوجة)، فإنها لم تخطئ بسهامها الأولاد الذين نالوا نصيبهم كاملا كما سبقت الإشارة، فنال معهم الرجل والمرأة مرة أخرى قسطا إضافيا باعتبارهما أبا وأما، فهيبة الطاعة والتوقير، والبر والإحسان، التي أراد الإسلام أن يسبغها على علاقة الوالدين بالأولاد، تحولت بفعل تأثير المفاهيم الغربية التي جاست خلال ديار المسلمين، إلى نكسة في معاملة الأولاد للآباء والأمهات، فقد تحولت الطاعة إلى تمرد وعقوق زاده تفاقما ما يروج في البيئة الاجتماعية من سموم تذهب بالعقول، فيتحول المشهد إلى مأساة، تحترق في أتونها الأفئدة والأكباد، وتزعزع من جرائها الأعمدة والأوتاد، وتحول التوقير والإحسان إلى إساءة وامتهان. ونتيجة لذلك، تحولت الأسرة إلى لا أسرة، على اعتبار أن الأسرة “سميت كذلك، لأن المعنى اللغوي للأسرة أنها من الأسر وكأن بعض أفرادها يأسر بعضهم بعضا و يشد بعضهم البعض”. فلاغرابة، إذن، أن ينفرط الشمل، وتتيه سفينة الأسرة في عرض بحر الحياة، وخضم أمواجه العاتية، وترتطم في النهاية بصخور التنطع والعناد، ومعاكسة الفطرة ومنهج الرشاد.

2-  وسائل الهدم ومعاوله :

لقد اتخذ أقطاب التغريب لتحقيق مآربهم الدنيئة وسائل غاية في التنوع والمكر، للإجهاز على الأسرة المسلمة وجعلها أثرا بعد عين، أذكر بعضا منها فيما يلي:

2-1- المؤتمرات المنعقدة تحت مظلة الأمم المتحدة: إنه مكر كبار أن تعقد الأمم الطاغية بقوتها تحت سلطان المبادئ المسماة كونية، وما هي بكونية، مؤتمرات مشبوهة، من أجل أن تنتهي بتسطير “مواثيق” يفرض على الشعوب أن تتبناها وتوقع عليها طوعا أو كرها، لتكون مع مرور الوقت، بمثابة السوس الذي ينخر كيانها، و يحولها في مرحلة انتقالية إلى جسم مجرور وراء “الأسياد الكبار”، دائر في فلكهم بكل ذل وصغار، لينتهي بها في النهاية  إلى العدم والبوار.

2-2- الجمعيات النسوانية: وتستخدم ذراعا تستمد إلهامها من المؤتمرات “الدولية” التي تمثل مرجعيتها التي تستمد منها القوة و”الشرعية” فتطلق عقيرتها في المجتمعات الإسلامية التي تنتمي إليها قالبا لا قلبا، “مبشرة” بالأفكار الشاذة المضادة لشرع الله، باسم الحداثة والعصرنة، ضاربة عرض الحائط بكل الأصوات المعترضة عليها باسم الأصالة، والتصدي لحركات التغريب والاستلاب.

2-3-  الإعلام الفاجر: إن تهديد الإعلام الفاجر للأسرة المسلمة تهديد رهيب، فهو يمارس عملية المسخ لها بلا هوادة، ويفعل فيها فعل النار في الهشيم، ويمتص رحيقها المتمثل في القيم البانية، ليلفظها في حضرة الشياطين، عربونا على العبادة والولاء، ويتربع التلفزيون (المفسديون) على عرش مملكة الإعلام الفاجر، لكونه عضوا دائما يفتح نيرانه صباح مساء، ويقصف بلا رحمة، ويعربد ذات اليمين وذات الشمال، مسقطا ضحايا كثيرين في كل يوم، وفي كل مكان، وما أجدر من يتحدثون، محقين، عن حرب الطريق التي تزهق أرواحا عديدة، أن لا يغفلوا عن حرب ضروس، لا تقل عنها خطورة، إنها حرب التلفزيون، ولئن كانت الأولى تذهب بالأشباح والأرواح، فإن الثانية تذهب بالأرواح وتترك الأشباح، تترنح في مشهد مفرغ من المصداقية والمعنى، مثيرا للرحمة والإشفاق.

2-4- التعليم التائه : إنه تعليم ظل يبحث عن وجهته فلم يجدها، لأن ربابنته لم يمسكوا بالبوصلة الصحيحة فضلوا الطريق، بل لأنهم مزقوا خريطة الإبحار، فحكموا على أنفسهم وأهليهم بالتيه في مجاهل الحياة، إنها غياب المقاصد، كما عبر عن ذلك ذات يوم الأستاذ الدكتور المهدي المنجرة ذكره الله بخير ورزقه العافية واليقين، وعبر عنه الكثيرون معه وبعده، ولكن دون أن يجد النداء آذانا صاغية، وقلوبا واعية، فكان لا بد أن يغرق التعليم، ومعه الأجيال المنكوبة، إلا من رحم الله، في لجة عاتية. فما ظنك بتعليم ظل يجتر أمراضه لنصف قرن من الزمان، ويلقي بضحاياه في البر والبحر، نتيجة سوء التدبير، الذي ضاعت معه الملايير سدى، وضاعت معه أحلام الأمة في تعليم رشيد، ونتيجة سوء التفكير والتعبير، الذي لابد معه من الارتطام  بالواقع المرير. ما ظنك بتعليم مختلط يصنع الفتنة ويغذي الأهواء، ويذهب بالأخلاق، ويعطي مثل السوء لشباب مائع إلا من رحم الله.

3- أغراض الحملة المشؤومة على الأسرة المسلمة :

أما الأغراض فتتمحور كلها في غرض كبير، إنه السعي بنية وسبق إصرار، إلى وأد الأمة المسلمة وتغييبها عن الوجود، ولئن كان ذلك في حكم الاستحالة، بحكم القوانين الإلهية الثابتة، وعلى رأسها قانون الشهود، فلا أقل من تكثير الضحايا، وتعطيل المسير، فإلى متى الغفلة والشرود؟ يا أمة الشهود.

 خــاتـمـة:

ذلك غيض من فيض، مما يمكن أن يقال في موضوع خطير يتعلق برأس الحربة في الإصلاح أو الفساد، والأمل معقود على من يدينون لهذه الأمة بالحب والولاء، أن يتجردوا لهدم الأوثان وإعادة البنيان، على هدى وبصيرة من القرآن، وسنة النبي العدنان عليه أفضل الصلاةوأزكى السلام، من الولي الرحمن.

والحمد لله رب العالمين، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>