حلاوة الدّعوة إلى الله تعالى والدفاع عنها وتصحيح مبَادئها (3) حـــلاوة الـمـرافـعـة عـن الـدّعـوة أمـام رؤسـاء الـدول وأعـيـانـها


فـي غـيـر تـلـجْـلُـجٍ أو اضْـطـراب : جعفر بن أبي طالب يترافع عن الدعوة بصدق فينصره الله

لما اشتد الأذى على المسلمين بمكة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم  لأصحابه : ((لوْ خَرَجْتُم إلى أرْضِ الحَبَشَةِ فإنّ بِها مَلِكاً لا يُظْلمُ عِنْدهُ أحدٌ، وهِي أرْضُ صِدْقٍ حتّى يجْعَلَ الله لكُمْ فَرَجاً مِمّا أنْتُم فيه))(1).

ولكن قريشا الكافرة والحاقدة لم تترك المسلمين ينعمون بالأمن والاستقرار في ظل ملِك عادل، فأرسلتْ وفداً دبلوماسيا ماهراً في الكيد والمكر، ومحَمَّلا بالهدايا لإرشاء الملِك وكل المحيطين به من رجال الدين الذين لا يتورّعُون عن بىْع الدين والمبادئ بأبخس الأثمان، وحاول الوفد ومن باعوا ذِمتهم من حاشية الملِك إقناعَ الملِك بتسليم المسلمين لهم بدون الاستماع لهم وتكليمهم لمعرفة الحقيقة كأنهم بضاعة جامدة، وهذه هزيمة نفسية تسجَّل لقريش بأنها غير قادرة على مواجهة الخصم : فكراً في مواجهة فكر، وحجةً في مقابل حجة، ومبدأ في مقابل مبدإٍ، ولكنهم -لخشيتهم من النور كالخفافيش- يحُوكون دسائسهم في ظلام المكر الخفي.

إلا أن الملك العادل أبَى أن تُخفر ذمته، ويُلعب به، فأصَرّ على معرفة حقيقة هؤلاء المُلتجئين إليه، وذلك بالاستماع إليهم، وبذلك سُقط في أيدي الوفد القرشي الماكر.

وأرسل الملك إلى هؤلاء المسلمين ليرسلوا وفداً ينوب عنهم في توضيح أمْرِهم للملك، حتى يتخذ في أمْرهم القرار المناسب، فاجتمع المسلمون فيما بينهم، وتشاوروا فيما يقولونه، وفيمن يمثِّلهم في المرافعة التاريخية الخالدة، فاختاروا جعفر بن أبي طالب ليتكلم نيابة عنهم.

فعندما حضروا أمام الملك وحاشيته من الأساقفة الذين نشروا مصاحفهم حوله، سألهم، فقال لهم :

ما هذا الدينُ الذِي قد فارقتُم فيه قومَكم، ولم تدخُلوا به في ديني، ولا في دين أحدٍ من هذه المِلل؟!

فقال جعفر بن أبي طالب :

1) صورة عن الواقع :

((أيها الملك، كنا قوما أهْل جاهلية، نعبُد الأصنام، ونأكل الميتَةَ، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الأرحام، ونسيء الجِوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف.. فكنا على ذلك…

2) جوهر هذا الدين :

حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسَبه، وصِدْقَه وأمانتَه، وعفَافه، فدعانا إلى الله لنوحِّدَه ونعبدَه، ونخلَعَ ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحِم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدّماء.

ونهانا عن الفواحش، وقوْل الزور، وأكل مال اليتيم، وقذْف المحصنات.

وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.

(قالت أم سلمة راوية الحديث : فعدّد عليه أمور الإسلام).

3) موقفنا من الدين : الاتباع لـه عن اقتناع:

فصدّقناه، وآمنا به، واتّبعْناه على ما جاء به من الله(2) فعبدْنا الله وحْدَه، فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحْلَلْنا ما أحلَّ لنا…

4) موقف قومنا منا العداوةُ بدون سبب :

فعَدا علينا قوْمُنا، فعذّبونا، وفتنُونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عباد الله تعالى، وأن نستحِلَّ ما كنا نستحِلُّ من الخبائث.

5) هروبنا من الافتتان بدون ضرر لقومنا :

فلما قهرونا، وظلمونا، وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجْنا إلى بلادك، واخْترناك على من سواك، ورغِبْنا في جِوارك، ورجَوْنا ألاّ نُظلم عندك أيها الملك.

فقال له النجاشي العالم، والسياسي العاقل الفطِن : هل معَك مما جاء به عن الله من شيء؟!

فقال جعفر : نعم.

فقال النجاشي : فاقرأْ عَلَيَّ.

فقرأ عليه صَدْراً من سورة مريم (كهَيعَص) قالت أم سلمة : فبكى والله النجاشيُّ حتى احضلَّتْ لحيتُه، وبكتْ أساقفتُهم حتى أخْضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تَلاَ عَلَيْهِم.

ثم قال النجاشي :

((إنَّ هَذا والذِي جاءَ بِه عِيسَى ليخْرُج من مِشْكَاةٍ واحِدَةِ)) انْطَلِقا، فلا والله لا أسلِمهم إليكما أبدا(3).

تتجلى الحلاوة في :

أ- حُسْن استيعاب الواقع الجاهلي وحُسْن عَرضه.

ب- حُسْن استيعاب المبادئ الإسلامية وحُسْن عرضها.

جـ- حُسن تجلية المشكل بينهم وبين قومهم.

د- حُسن عرض التظلُّم، وحُسن الدفاع عن حقهم في حرية التعبُّد بدون إكراه لأحدٍ، أو إذاية لأحد.

هـ- حُسن استمالة الملك العادل  لصفّهم لمعرفتهم بسلامة طويته.

و- حُسْن اختيار النص القرآني المبرز لعظمة نبي الله عيسى عليه السلام في غير مغالاة ولا تأليه.

فالحكمة في حُسْن العرض، وحُسْن الأسلوب، وحُسْن إبراز المشكل، وإبراز ظُلاَمَتِهِم جعلتهم ينتصرون سياسياً على خصومهم، وجعلتهم يكسبون ملكا عادلا إلى صفهم، وجعلتهم يكسبون لُجُوءاً سياسياً شريفاً كريما عزيزاً منيعا.

فلماذا المسلمون اليوم لا يعرفون كيف يكسبون قضاياهم في المحافل الدولية والإقليمية؟ لأنهم يفقدون الحلاوة الإيمانية التي تجعلهم يعتزون بالدين، ويعتزون بالدفاع عنه وعن المظلومين في تجرُّدٍ وحسن توكل على الله تعالى.

وعندما يعرفون واقعهم ودينهم ويحلو الإيمان في قلوبهم يرزقهم الله عز وجل السداد والتوفيق ويوتيهم الحكمة.

المفضل فلواتي

رحمه الله تعالى

—-

1- السيرة الميسرة  ذ. المفضل فلواتي : 105/1

2- جاء به من الله : هذا دليل واضح على أن العرب بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل هذا الدين لاقتناعهم التام بأنه من عند الله. ولهذا ينبغي أن يحرص الدّعاة على أن يكون ارسالهم ربانيا.

3- السيرة الميسرة 110.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>