الدعوة بين الإعلام الـمُجْهض والإعلام الـمُنهض


مَفْهوم الإعْلام :

الإعلامُ -ببساطة- هو : توصيلُ المعلومةِ التي تراها ذَاتَ أهميةٍ إلى المَعْنِيِّ بها ليعْمَل بها، أو لتترسَّخَ في أعْماق نفْسِهِ فتصبح جُزءاً أساسياً من كيانه، على ضَوْئه يَسيرُ، وفي سبيله يجاهدُ.

والوحيُ في حقيقتِه إعلامٌ من الله تعالى لرسُله بأن يتديَّنُوا بالدِّين المُوحى بهِ إليْهِمْ، ويبلِّغُوه للناس ليتديَّنُوا به تطوُّعا واختياراً مُقَابِلَ المَثُوبَةِ في الدُّنيا والأُخرى.

فما معنى {وأوحيْناَ إلى أُمِّْ مُوسَى أنْ أَرْضعِيه فإذا خِفْتِ عليه فألْقِيهِ في اليَمِّ ولا تَخَافي ولاَ تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوه إِلَيْكِ وجَاعِلُوهُ من المُرْسَلينَ}(القصص : 6).

معناه : إخبارُ أُمِّ موسى بالخطَّة التي عَليْهاَ أن تتَّبِعَهاَ لتُنْجِيَ ولَدَهاَ مِنْ ملاحَقَةِ فرعَوْن وأتباعه لكل المواليد الذُّكور.

 أهَمِّيًّةُ الإِعْلاَمِ :

أهميتُهُ تتجلَّى في عدة ميادين :

1- أنَّهُ يُوضِّحُ فِكْرَةَ الخطَّة التي تسيرُ عليها الدَّولةُ أو الأمَّةُ أو المجتمع.

2- أنَّهُ يُحَمِّسُ أفرادَ الأمة أو الدَّولة للنُّهُوض بالفكرة أو الخطة اقتناعا وإيماناً بها.

3- أنه يبيِّن للأفرادِ ثَمراتِ ونتائجَ التنفيذ للفكرةِ أو الخُطَّةِ بكل حرية واقتناعٍ، ويبيِّنُ أيضاً عواقِبَ النكُوص والارتدَادِ عن الخُطةِ، أو مُحَاربتها ومُعَاكَسَتها.

4- أنه هو الذي يتولَّى الدفاعَ عن الفكرة أو الخطة بكل الحُجَج والبراهين حتى لا يُؤَثِّرَ الأعْدَاءُ للفكرة في مُعْتَنِقيها والمومنين بها فيرتدُّوا على أدبارهم خَاسئين خائبين فاشلين.

ميَادينُ الإِعْلاَمِ الإِسْلاَمِيِّ :

ميادينه متعدِّدَة تشمل :

1- المعْبُودَ في الإسلام مَنْ هُوَ؟! وإذا كان المعبودُ هو اللهَ عَزًَّ وجَلَّ فلماذا يَسْتَحِقُّ أن يُعْبَدَ وَحْدَه؟! وإذا كان هناك مَنْ يُشْرِكُ مع الله شيئاً في العبادة فهل يُعْـتَبَرُ ذلك صاحب عَقْلٍ مُعْتَبرٍ؟! وصاحِبَ فطرةٍ سليمة؟! وما دليلُ فَسَادِ عقله وفساد فطرته؟! وما عاقبةُ هذا الفاسدِ المفْسِد؟! وما خطرهُ على نفسه ومجتمعه وأمَّته وبيْئَته؟!…

2- وتشمل توضيح دور الإنسان في هذه الحياة؟! وما جزاؤُه إن قام بدَوْره أحسن قيام، وجزاؤُه إن خان الأمانة؟!

3- وتشمل توضيح حِكْمةِ إنزال الكتُب، وحكمة بعثة الرسُل.

4- وتشمل توضيح العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المومنين فيما بينهم، والعلاقة التي ينبغي أن تكون بين المومنين وغيرهم في حالتَيْ السِّلم والحَرْب.

5- وتشمل توضيحَ المحبة التي يجبُ أن تكون لله وللرسول وللدِّين وللجنَّة، وتوضيحَ البُغْضِ الذي يجبُ أن يكون للكُفْرِ وللنار ولأعداء الله والرسول والدين.

6- كما تشمَلُ توضيحَ الأولوياتِ في الدِّين، ومن أينَ ينبغي البدْءُ في الدَّعوة، وكيف يُتَدَرَّجُ بالمَدْعُوِّينَ حتى يصلوا إلى  ما قَدَّر الله لهُمْ أن يصلوا إليه من الكمال، وتوضيحَ الأولويات في المَدْعُوِّين، فالفردُ أولا، والأسرة ثانيا، والجيران والأقربون ثالثا، والمجتمع رابعا… وتوضيحَ الأوليات في النوعية الإنسانية فالسَّليمُ الفطرة النجيبُ الذكيُّ المثقَّفُ أولا، لأنَّ الدعوة تحتاج إلى الرَّواحل.

أمَّا المُلوَّثُو الفطرة خُلُقاً، أو غنًى مُتَبطِّراً، أو سلْطةً مُعْوجَّة باطشةً، أو ثقافة مَسْمُومةً، أو أدْلجَةً حِزْبيَّةً مُضَادَّةً, أو تَمَذْهُباً عُنْصريّاً مَقيتاً… فهؤلاء كلُّهُمْ لا تَضْييعَ لِلْوَقْت مَعَهُم، لأنهم ليسُوا من المُؤهَّلين ليكونوا من السابقين، فهؤلاء لا يقتنِعُون -إنْ قُدِّرَ لَهُمْ أن يقْتَنِعُوا- إلا عندما يغمُرُهُمْ بَحْرُ الدعوة بأمواجه الزاَّخرة الهادرة، وإلاَّ وقَفُوا في الصَّفِّ الآخَر.

7- كما تشمل الحَثَّ على الدعوة العامة والخاصة لتخليص الإنسان من رِبْقَةِ الاستعباد البشَريِّ والحجريِّ والطيني وجَعْله حُراًّ يسبَحُ في ملَكُوتِ الأنوار الرباَّنية.

إنها ميادين لا عَدَّ لها ولا حَصْر، لشموليتها وتنوعها بحسب أنواع جيمع النشاطات الحياتية، والجزاءات الدنيوية والأخروية.

بعض النمَّاذج الموضِّحَةِ للميادين الدَّعَويَّةِ :

1- في ميدان الحث على القيام بالدعوة :

{ومَنْ أحْسنُ قولاً مِمَّنْ دعا إلى الله وعَمِلَ صالحاً وقال : إنَّنِي مِنَ المُسْلمينَ}(فصلت : 32)، {ادْعُ إلى سَبيلِ ربِّك بالحكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلْهمْ بالتي هيَ أَحْسَنُ}(النحل : 125)

2- في ميدانِ المُحَافَظَةِ على اسْتِقْرار المجتمع ونظافته:

{إن الذين يحِبُّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمَنُوا لَهُمْ عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة واللَّهُ يَعْلَمُ وأنتُمْ لا تعْلَمُون}(النور : 19)

{والذين يُوذُونَ المومنين والمُومناتِ بغَيْر ما اكتسَبُوا فقد احتمَلُوا بهتاناً وإثْماً مُبيناً}(الأحزاب : 58)

{إن الذينَ يَرْمُون المُحْصَنَاتِ الغافِلاَتِ المُومِناتِ لُعِنُوا في الدُّنيَا والآخِرَةِ ولهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ  عليْهِمْ ألْسِنَتُهمْ وأيْديهِمْ وأرجُلُهُم بما كَانُوا يعْمَلُونَ}(النور : 24)

3- في ميدان العلاقات الأُخَوِيَّةِ بيْنَ أَفْرادِ المجْتَمع :

{إنَّمَا المُومِنُونَ إخوَةٌ فأصْلِحُوا بيْنَ أخَوَيكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ لعلَّكُمْ تُرحَمُون يا أيُّهَا الذين آمَنُوا لا يَسْخر قَوْمٌ منْ قَوْمٍ عسى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ولا نِسَاءٌ من نِسَاءٍ عسى أن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ بيسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بعد الايمان ومَنْ لَمْ يَثُبْ فأولئكَ هُمُ الظَّالمُونَ يا أَيُّهَا الذين آمَنُوا اجْتَنِبُوا كثيراً من الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تجَسَّسُوا ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً…}(10-11-12 الحجرات)

4- فــي ميـــدان العلاقات مع أعْداءِ الملة :

{ياأيُّها الذين آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أولِيَاءَ}(الممتحنة : 1)

{يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تتَّخِذوا اليَهُودَ والنَّصَارى أوليَاءَ بعْضُهُمْ أولِيَاءُ بَعْضٍ ومَنْ يتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يهْدي القَوْمَ الظَّالمينَ}(المائدة : 53)

{مَا يَوَدُّ الذين كَفَرُوا من أهْلِ الكتَابِ ولاَ المُشرِكِينَ أن يُنَزَّلَ عليْكُم من  خَيْرٍ منْ ربِّكُمْ}(البقرة : 104)

{إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يرْقُبُوا فيكمْ إلاًّ ولا ذمَّةً}(التوبة : 8)

{لا َتَجِدُ قَوْماً يُومِنُونَ باللَّه واليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّون منْ حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُم أَوْ أبْنَاءَهُم أوِإخْواَنَهُمْ أَوْ عشيرَتَهُمْ}(المجادلة : 21)

5- في ميدان العلاقات مع المُسَالمين منْ خارج المِلَّةِ :

{لا يَنْهاَكُمُ اللَّهُ عن الذين لَمْ يُقَاتلُوكُمْ في الدِّين ولمْ يُخرجُوكم مِنْ ديَاركُمْ أنْ تَبَرُّوهُم وتُقْسِطُوا إليْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحبُّ المُقْسِطينَ إنَّمَا يَنْهَاكُم اللَّهُ عن الذين قَاتَلُوكُمْ في الدِّين وأخْرَجُوكُم منْ دياَرِكُمْ وظَاهرُوا على إخْراجكُمْ أنْ توَلَّوْهُمْ}(الممتحنة : 9)

{ولا تُجَادلُوا أهْلَ الكتاب إلاَّ بالتي هي أحْسَن}(العنكبوت: 46)

{وإذَا سَمِِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لنا أَعْمَالُنا ولَكُمْ أعْمَالُكُمْ سلاَمٌ علَيْكُمْ لا نَبْتَغي الجاهِلينَ}(القصص : 55)

{وَقُولُوا للِنَّاسِ حُسناً}(البقرة : 82)

{ادْفَعْ بالتي هِيَ أحْسَنُ فإذا الذي بيْنَكَ وبيْنَهُ عَداَوَةٌ كَاَنَّهُ ولِيٌّ حَميمٌ}(فصلت : 33)

ميادين الإعلام الهَابِطِ :

بما أن الإنسانَ الهابط يعيشُ بدون رسالة، ولا طُمُوح يسْمُو فوق الرغبات البشرية البسيطة، من أكْل وشُرْبٍ ولباسٍ وجنسٍ، لا يفكِّر في رسَالة علمية، ولا رسالة إصلاحية، ولا رسالة اجتماعية، ولا رسالة حضارية، فهمَتُهُ التُّرابُ، وعقْلُهُ لا يفكر إلا في التراب، إذا تولى مسؤولية كان كالذِّئْب الجائع الذي أؤتُمن على رعَاية قطيع من الغنم، وإذا امتلك  شيْئاً من المال عَمِل على استعبادِ المُستضْعفين بذلك المال ليزْداد ثراءً ويزْدَادُوا ألما وحرْمانا، وإذا ارتَقَى منصبا سِياسياًّ عاليا طَغَى وتجبَّر، فهو عبدُ الذات، عبْدُ الهَوى، عبْدُ المادَّة، من الذين قال فيهم تعالى : {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حتَّى زُرْتُم المقَابِرَ}(التكاثر: 1)

ومن الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم “تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَار والدِّرْهَمِ والقَطيفَة والخميصَةِ إِنْ أُعِطِيَ رضِيَ وإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ تعِسَ وانْتَكَس، وإذا شِيكَ انْتَقَشَ”(البخاري)

إنسان لا تسمو همَّتُه فوق التراب كيف يكونُ إعلامُهُ؟! لا يكون إعلامه إلا غارقاً في المُلْهيات، والحِزْبيات المتصارعة على مناصب الدنيا، وغارقا في الانْبِطاح لأصحاب السُّلطة والمال، وغارقاً في خداع الشعوب والجماهير بالمشاريع الوهمية والفُتاتِيَّة التي لا تُسْمِنُ ولا تُغْنِي من جوع. ولا تعَبِّئُ شعباً لنيل المعالي، ولا تُجنِّدُ طاقةً لاختراق آفاقِ الابتكارات الحضارية الرائعة.

ولهذا استحقَّ هذا الإنسانُ أن يدْعُوَ عليه الرسولُ  صلى الله عليه وسلم بالتعاسة الدائمة، والانتكاسة المستمرة، لأن عبد الدنيا في سقوط دائم، كلَّمَا أفاقَ سقَطَ، وكلَّما نهض تعثَّر، فهو من سكرته بالدنيا قلَّما يُفيقُ، وإذا أفاق لا يفيق إلا على قارعة وقعُها شديدٌ، تَهُزُّهُ هزا عنيفاً (إنَّهُمْ لفي سَكْرَتِهِم يعْمَهُونَ)(الحجر : 72)

إذا ذكَّرتَ هذا الإنسان الهابط بالرسالة السماوية نفَرَ منك نفُوراً شديداً، وكادَ لكَ كيْداً عظيماً، فهذا النوع الهابط النافِرُ من الدَّاعي له للخيْر المُنْجي شبَّهَهُ الله تعالى بالحيوان الذي لا يَعْقِلُ، فقال في المعرضين {فمَالَهُمْ عن التذكرَةِ مُعْرضينَ كأنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرَةٌ فرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}(المدثر: 51).

أي هؤلاء السكارى بحبِّ الدنيا تائهون شاردُون كالحُمُر التي بمجرَّد ما ترى الأسَدَ أو الصَّيَّاد تفِرُّ منه خوفا من الهلاك وهؤلاء بمجرد ما يسمعونَ أوْ يرَوْنَ محمدا صلى الله عليه وسلم يَدْعوهم حتى يُسرِعُوا في الهَرَب والنفور من الهُدى المُصلِحِ لهم إلى الضلال المُهْلِكِ لهم، والحيوانُ في هذا التشبيه أحْسَنُ حالاً لأنه يهْرُبُ من الهلاك للنجاة، وهم يهربُون من النجاة للهلاك. فَمَنْ أحَطُّ قدراً؟ آلحيوانُ غيرُ العاقل أم الكافرُ الجاهل؟!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>