حول نهاية التاريخ


يتساءل المثقف المعاصر وهو يجد نفسه قبالة معطيات جديدة في فلسفة التاريخ وتفسيره وبخاصة نظرية ” نهاية التاريخ “.. هل أن التاريخ -فعلاً- إلى انتهاء ؟

للإجابة على السؤال نجد أنفسنا قبالة المدلول اللغوي والاصطلاحي للعبارة إياها..

فعلى المستوى الأوّل تعني في المنظور الديني عموماً نهاية الحياة الدنيا والتهيؤ ليوم الحساب، وهذا من الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله سبحانه.. فالساعة التي هي نهاية التاريخ بهذا المفهوم {لا يجلّيها لوقتها إلاّ هو} سبحانه كما يشير القرآن الكريم في أكثر من مكان. وكل محاولة للتكهن بالوقائع المستقبلية لا تعدو أن تكون ضرباً من الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً. وإن كان التغيّر التاريخي والتبّدل الاجتماعي مبنيين على معطيات محدّدة ترتبط بالفرد والجماعة وتسمح بقدر من التعليل العلمي للحركة التاريخية ومصائرها. هذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدّم في أحاديثه الشريفة شبكة من العلامات التي ترتبط زمنياً بنهاية التاريخ فيما يعرف بأشراط الساعة الصغرى والكبرى، والملاحم والفتن، والتي تعين الإنسان في مرحلة تاريخية قادمة على ترتيب توقعّاته بخصوص هذه النهاية.

أما على المستوى الاصطلاحي فإن الجواب يقودنا إلى نظرية فرنسيس فوكوياما حول (نهاية التاريخ) التي تتزامن لسبب أو آخر مع المتغيّرات السياسية والإيديولوجية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم وفق مبدأ القطبية الواحدة، فيما يعرف بالنظام العالمي الموحّد أو الجديد. ولعّلها تتزامن كذلك مع سياسات (التطبيع) التي يراد منها تدمير الحاجز النفسي والثقافي والعقدي بيننا وبين إسرائيل تحت مظلة عالم موحّد تنسلخ فيه كل أمة عن تاريخها وتنتمي لمقولات التنمية الاقتصادية، والرفاهية المادية، ومنطق التكاثر بالأشياء وارتفاع معدّلات النموّ.. وهي حالة، أو معادلة، مكتوب علينا فيها نحن العرب والمسلمين أن نخرج منهزمين وأن نسلّم مصائرنا لأمريكا والصهيونية تصوغانها كما تشاءان.

إن انسلاخنا عن تاريخنا بحجّة “نهاية التاريخ” سينطوي بالضرورة على تخلّينا عن مقوّماتنا، بما فيها خصائصنا العقدية، والانخراط في نظام استلابي يأخذ بأعنّته ويحصد زرعه وضرعه الأمريكان واليهود.

وعلى ذلك يصعب التسليم بمقولات فوكو ياما حول نهاية التاريخ، لأنها تنطوي على الكثير من الخطأ على المستويين الذاتي والموضوعي.. والخطأ ـ كما يقول السياسي الفرنسي تاليران : أكبر من الجريمة، وسنكون مجرمين بحق أنفسنا إن سلّمنا بمعطيات كهذه.

من جهة أخرى، فإن مما هو معروف لدى دارسي التاريخ والحضارات، استحالة خضوع التاريخ لنمطية واحدة.. فليس ثمة ثبات أو سكون تاريخي على الإطلاق، وقد ثبت بطلانه يوم حاولت النبوءات الماركسية أن تقود التاريخ إلى نهايته تحت مظلة حكم (البروليتاريا).. والقرآن الكريم بواقعيته المعجزة يرفض هذا “التأحيد” ويقول : {ولا يزالون مختلفين -إلاّ من رحم ربك- ولذلك خلقهم} {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض..}. فالاختلاف والتغاير سنة من سنن الله في التاريخ، وهو في الوقت نفسه ضرورة من ضرورات تحريك الحياة.

فنهاية التاريخ بهذه الصورة النمطية السكونية، ووضع البشرية كلّها في خانة واحدة، أمر لا ينسجم مع مطالب العلم ولا مقاصد الدين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>