تفسيــــر  سـورة الفاتحة


استمداد القوة والرحمة من الله في حركة الإنسان

{بسم الله} :

والمعنى؛ بذكر اسم الله، وفيها إلزام للمسلم بأن يكون مع الله، والمسلم إذ يقول بسم الله، وكأنه يقول : استمدادا من قوتك يا ألله ومن إذنك أفعل كذا، وهذه الصيغة معروفة عند الناس :فالقاضي مثلا إذا نطق بالحكم النهائي في قضية ما يقول باسم رئيس الدولة، أو باسم الملك أو ما شابه هذا، أي أعلن أن الإذن إنما استمد من قوة هذه الجهة في اتخاذ القرار.

والذكر بالنسبة لبسم الله لا يحق أن يكون لسانيا فقط، بل يجب أن يكون قلبيا. ولما كانت عادة الناس أن البسملة عندهم مجرد لفظ لساني، فإننا نجد من ينطق بها حتى في ارتكاب الحرام.

“الرحمان الرحيم” :

لقد اختار سبحانه وتعالى أن يبدأ بأول وصف وهو الرحمة بصيغتين؛ الرحمان وهي صيغة عامة، والرحيم وهي أم الصفات الإلهية كلها.

وهناك فرق بين الرحمان والرحيم، مع أن البعض قال إنه لا فرق.

فالرحمان تتصل بكونه سبحانه وتعالى منعم بالنعم العامة، النعم التي تتناول المستحق وغير المستحق، ومن ذلك مثلا أن الله عز وجل يرحم كل الكائنات دون فرق، كما أنه يرحم ويُنعم بنعم مهمة على ذلك الملحد الذي يبذل كل ما في وسعه لتحطيم دين الله. فهو يرحمه لأنه يمنحه القوة والبقاء والصحة والعافية من حيث لا يدري، مع أنه سبحانه بقدرته فعل غير ذلك.

وأما الرحيم فمتصل بكونه سبحانه وتعالى منعم بالنعم الخاصة، النعم التي تخص أولياءه، ويشعر بها المؤمن كلما تغلغل في دينه، ومن ذلك قول أحد الصالحين مُعْلِنا عن اطمئنانه من رحمة الله الخاصة “إننا في لذة لو علمها الملوك لقاتلونا عليها”.

قال الإمام أبو حامد الغزالي في توضيح معاني هذين الاسمين : “اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعي مرحوما، ولا مرحوم إلا وهو محتاج من غير قصد وإرادة وعناية، فالمحتاج لا يسمى رحيما، والذي يريد قضاء حاجة ولا يقضيها، فإن كان قادرا على قضائها لا يسمى رحيما، إذ لو تمت الإرادة لوفى بها، وإن كان عاجزا باعتبار ما اعتوره من الرقة، ولكنه ناقص. وإنما الرحمة التامة إضافة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم. والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق، ورحمة الله تامة عامة، أما تمامها : فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، وعم الدنيا والآخرة، وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجية عنها، فهو الرحيم المطلق حقا …الرحمان أخض من الرحيم، ولذلك لا يسمى به غير الله، والرحيم قد يطلق على غيره، فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله الجاري مجرى العَلَم، وإن كان هذا اشتق من الرحمة قطعا، ولذلك جمع الله بينهما فقال : {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}فلزم من هذا الوجه ـ من حيث معنى الترادف في الأسماء المحصاة ـ أن يُفرق بين معنى الاسمين”(1).

من مظاهر الرحمة في العبادات

وهناك أمر آخر مهم لابد من الإشارة إليه، وهو أن رحمة الله عز وجل لا تنتج عن انكسار في القلب كما هو شأن الإنسان، بمعنى، أن الله سبحانه إذا رحم فإنه يرحم لأنه رحيم ورحمان بالعباد، وأما الإنسان فهو لا يرحم إلا إذا رَقَّ قلبه وانكسر وهو ما لا يجوز على الله عز وجل.

ومن خلال هذا الأمر يتضح أن الإنسان بما منحه الله من قوة عقلية وجسمية خاضع لرحمة الله عند لحظة عجزه، خصوصا، ذلك أن الإنسان مأمور ومكلف من ربه، لكن هذا الإنسان قد لا يكون مستطيعا في كل الأحوال، ولذلك فإن الحق سبحانه يبرز له نوعا جديدا وخاصا من الرحمة، فمن مظاهر هذه الرحمة في العبادات مثلا(2) :

- الإسقاط بالمرة (كالحج على العاجز).

- النقص (كالتقصير في الصلاة).

- الإبدال (كالجلوس بدل الوقوف في الصلاة).

- التقديم (جمع التقديم في السفر أو في الحج).

- التأخير (جمع التأخير في الصلاة).

- الترخيص.

- تغيير الكيفية (في صلاة الخوف).

وهذه التغييرات التي تقع في العبادات تبرز لنا بجلاء أن شريعة الله رحيمة، وبالمقابل فالقصد في التشدد في الشريعة الإسلامية غير وارد، وإذا ضاعت الشريعة ضاع التيسير وضاعت الرحمة.

في التمييز بين الحمد

والشكر والمدح

{الحمد لله رب العالمين}

إن العبد بقراءته لهذا المقطع يُقِرُّ لربه بأمر مهم وهو استجماع الحمد للرب كله.

والحمد مصطلح شرعي واجب استيعابه، وهو من ألزم الكلمات للمسلم، ويجب استحضار معناه، وهو يشبه الشكر والمدح مع اختلاف في بعض الوجوه :

> المدح : وهو الثناء على موجود سواء كان بعد الإنعام أم قبله، ومن هنا صح مدح الذي له إرادة واختيار أو غيره، وهو أعم من الحمد.

والمدح إما أن يكون مأمورا به (كمدح الشعراء للرسول )، وإما أن يكون منهيا عنه كمدح من لا يستحق المدح من أناس ماجنين مثل المغنيين والرياضيين)، مما يسبب عُلُوَّ الصغار والساقطين وانحطاط المجتمع بكامله، وقد كان الرسول  يقول : “أُحْثُوا التُّرَابَ في وَجْهِ المَادِحِينَ”.

> الحمد : وهو الثناء بالفضيلة، ويترتب عن صدور نعمة من الممدوح، وهو أخص من المدح.

والحمد لا يكون إلا جائزا إذا كان متعلقا بمن يستطيع الحمد، والحمد ثناء على الفواضل، وأما المدح فهو ثناء على الفضائل. ومما يؤمر به في الشرع الإسلامي الحمد للناس؛ بمعنى أنه لابد للفرد أن يكون سريع الإحساس بإحسان الغير والحمد له، قال : “من لم يحمد الناس لم يحمد الله”.

> الشكر : قال الراغب الأصفهاني : “الشكر هو تصور المُنْعَمِ عليه النعمة وإظهارها، قيل وهو مقلوب عن الكشر وهو الكشف ويُضاده الكفر…

والشكر على ثلاثة أضرب : شكر بالقلب؛ وهو تصور النعمة، وشكر باللسان؛ وهو الثناء على المنعم، وشكر بسائر الجوارح؛ وهو مكافأة بقدر استحقاقه…

وشكر العبد لربه هو معرفة نعمته وحفظ جوارحه بمنعها عن استعمال ما لا ينبغي…

وقال بعض أهل العلم : كل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله تعالى، فإن شكر نعمته نعمة منه فيحتاج العبد إلى شكر ثان كشكره الأول، وكذلك الحال في الثالث والرابع، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى، ولذلك قال موسى عليه السلام : “اللهم أمرتني بالشكر على نعمتك، وشكري إياك نعمة من نعمك”. ومن هذا أنشد الشاعر فقال:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله

وإن طالت الأيام واتصل العمر”.

فهذه بعض أوجه الاختلاف بين الحمد والمدح والشكر، وقد جمع هذا الاختلاف الراغب الأصفهاني عند شرحه للفظة الحمد، فقال :   “الحمد لله تعالى الثناء عليه بالفضيلة، وهو أخص من المدح وأعم من الشكر، فإن المدح يُقال فيما يكون من الإنسان باختياره، ومما يُقال منه وفيه بالتسخير، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه، والحمد يكون في الثاني دون الأول، والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة، فكل شكر حمدٌ وليس كل حمدٍ شكرا، وكل حمدٍ مدحٌ وليس كل مدحٍ حمدا”(3).

ثم إن بين الحمد والشكر خاصة اختلاف من وجه واحد بارز وهو : إن الذي يُحمد لأنه أحسن وليس ضروريا كأن يُظهر إنسان حمده على عمل شخص غيابيا، وأما الشكر فهو متصل بالإحسان الخاص كأن يظهر الإنسان حمده لشخص أحسن إليه خاصة.

إن الله عز وجل ساق في قوله هنا {الحمد لله}  لفظ الحمد وربطه بالله دون أن يترك الأمر للإنسان كأن يظهر يقول مثلا “أحمد الله”، وهذا يعطينا مجموعة من الأمور منها :

- إن الإنسان وهو يقرأ الآية {الحمد لله} يُقِرُّ أن الحمد ثابت لله قاله أو لم يقله، بمعنى : أن الحمد ثابت لله سبحانه بصرف النظر عن وجود الناس.

- إن الحمد بتمام معناه ثابت لله مجرد عن الإنسان، فلو قال الإنسان أحمد اللهأنا : فالحمد هنا ضئيل مناسب للنعم الخاصة بهذا الإنسان ومناسب لعلمه، ولو قارنا علم ونعم هذا الإنسان لوجدناها تافهة أمام الله على الناس كافة، ومن هنا فإن حمد الإنسان بصيغة الأنا يبقى ضئيلا جدا.

- من حيث المعنى : لا يصح إلا أن يكون الحمد لله تعالى.

والحمد لو كان متعلقا بالبشر لما تم أبدا.

إن استشعار القلب لعظمة الله هو الداعي إلى الحمد، والله عز وجل هو فاعل هذا الفعل في قلب الإنسان، فيبقى الحمد في كل الأحوال متعلقا بالله عز وجل.

-    لقد ورد في الشرع ضرورة حمد الإنسان كقوله عليه الصلاة والسلام : “من لم  يحمد الناس لم يحمد الله”، ومن ذلك مثلا حمد المريض للطبيب، وحمد الطالب للأستاذ، لكن الذي يثير الانتباه هنا هو : كيف يمكن الجمع بين قوله تعالى {الحمد لله} وقوله عليه الصلاة والسلام “من لم يحمد الناس لم يحمد الله”؟

والجواب من وجهين :

> أولا : إن الحامد للإنسان إنما يعلن بحمده عن عدم جحده علما بأن الذي سخر ذلك الإنسان للإحسان هو الله عز وجل : فالحمد للإنسان فيه حمد لله.

> ثانياً : إن الحمد متعلق بكل من يستطيع الحمد، وهو مترتب عن صدور النعمة، والإنسان مع ضعفه قادر على الإنعام والإحسان كما أن الله عز وجل منعم ومحسن، والفرق ؛ أن أي إنسان يُحسن فإنه ينتفع بإحسانه، فهو إن أحسن كان رجاؤه قويا في ثواب الله، وفي الثناء عليه والمدح، وفي تصفية النفس من داء الحرص والبخل وغير هذا… أما الله عز وجل فليس له من غرض في ذلك، فهو يحسن لأنه يريد أن يحسن ولأنه رحمان رحيم.

——

1- المقصد الأسنى ص 42/41.

2- أنظر تفصيلا في الموضوع كتاب : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 55- 57.

3- معجم مفردات ألفاظ القرآن ص 130.

د.مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>