نظرات في معاني الوحي الأولي


1- التدبُّر في الكون مفتاح النهوض بأعباء الرسالة:

إن موضوع الآيات الأولى من سورة العلق: {اقرأ باسْمِ ربِّك الذي خَلَق خلقَ الإنْسَانَ من علق اقْرَأ وربّك الأكْرَم الذِي علَّمَ بالقَلَمِ عَلَّم الإنْسَانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} هو دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للتدبر في الكون وتأمُّله، وقراءته باسم الله تعالى ربِّه وخالقه، لأن قراءة الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد هو الطريق الصحيح لمعرفة الله عزَّ وجل وقُدرته وعظمته وسعة علمه ومُلكه وإحاطته وهيْمنته على الصغيرة والكبيرة، لأن هذا الكون لا يستطيع أحد أن يقول إِنه خَلَقه أو شارك في خلق جزء منه، فالكون كتاب الله المفتوح أمام الأمّي والمتعلم، أمام العبقري والبليد، حتى لا يكون لأحد من خلقه حجّة على الله في أنه لم يعرفْه ولم يعْلَمْ بوجوده، فكُلُّ شيء في الإنسان ومحيطه يدُلُّ عليه، ولذلك كان التعريفُ بالله عز وجل بأبْرز وأوْضح صفاته -وهي الخلْقُ للإنسان وغيره- لَيْس هو المقصودَ لذاته، وإنما المقصود قراءتُه باسم الله الخالق، لا باسم الآلهة المزيفة حجريّة كانت أو بشريّة، فإنها لا تستطيع أن تدافع حتى عن نفسها فما بالك بالقُدرة على نفع غيرها، والقراءة للكون “باسم الله” معناها السَّيْرُ فيه وَفْقَ ما شَرَع الله تعالى من قوانين وسنن ليكون الكون مسخراً لمنفعة الإنسان ومصلحته.

2- التدبر للكون مفتاح الخضوع والانقياد لله تعالى:

إذا كان الله تعالى وحده خلق الإنسان وغيره، وهو الذي تكفل بجميع مقومات حياته من رزق ورعاية وعناية وتسخير وهداية وإحياء وصحة ومعافاة،.. فلا حق لأحد في توجيه الإنسان غير خالقه، لأنه الأعلم بمصالحه، حالا ومآلا، كما لا حق للإنسان المربوب أن يتلقى التوجيه من غيره.

ألا ترى أن المحاكم في الدنيا تُصْدِر الأحكام باسم حُكّامها دليلا على الانضباط بقوانين البلد والساهرين عليها، فكَيْف ينضبط الإنسان للإنسان وهو الأجهل بمصالحه، ولا ينضبط للخالق المحيط بكل شيء علما، والقادر على توفير كل مقوّمات كيانه، والمالك لأمر مصيره؟؟؟!

3- تعليم الناس القراءة باسم الله جوهر الرسالة:

والقراءة باسم الله تعالى للكون هي جوهر رسالة الأنبياء، فالله تعالى يبعثهم ليعلموا الناس قوانين السَّيْر في الحياة بالإقرار بفضْل المُنْعِم وشُكْرِه، حتى لا يصطدموا بالنكبات والكوارث الكونية والبشرية. ولقد عاش رسولنا صلى الله عليه وسلم قارئا للكون باسم الله، ومعَلّماً لأتباعه كيف يقرؤون الكون باسم الله، وكيف يزكُّون أنفسهم ويطهرونها من الكفر، والشرك، والنفاق، والانحراف، والعصيان، فكان إذا نام قال: “اللهم أسلمتُ نفسي إليك ووجهت وجهي إليك..” وإذا استيقظ قال: “الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور” وإذا خرج من بيته قال: “باسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أُزَل، أو أظلِمَ أو أُظْلَم أو أجْهَل أو يُجْهَل عليّ” وإذا دخل المسجد قال: “اللهم افتح لي أبواب رحمتك..” وإذا خرج قال: “اللهم إني أسألك من فضلك العظيم” -انظر زاد المعاد فقد أتى ابن القيم رحمه الله فيه بجميع أنواع هديه في ذكر الله تعالى في كل الأحوال 365/2 وما بعدها-.

4- معنى الأمر بالقراءة لمن لا يعرفها:

الأمر بالقراءة “باسم الله” يحمل في طياته معاني كثيرة  من جملتها :

أ- أن يُحمَلَ الأمْرُ على أنَّهُ أمْرٌ تكوينِيٌّ لا تكليفيٌّ، لأن التكليف لا يكون إلاَّ بالمتيسر {لا يُكَلِّف اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا}-البقرة : 285- خصوصاً وأن المأمور به أي المقروء وهو المفعول به محْذُوفٌ لا وجُودَ له، فالأمر هنا ليس كالأمر في قوله تعالى: {وأَقِيمُوا الصَّلاَة} فالمطلوب إقامته موجودٌ وهو الصلاة، وهي مقْدُورٌ عليها إذا عزَم عليها الإنسان وأرادها، بينما في الأمر بالقراءة باسم الرّب حُذِف المفعول به للدّلالة على أن الأمر تكْوينِيٌّ، أيْ اللّهُ يعْلم أنك أُمِّيٌّ، لا تعرف القراءة والكتابة، ولا تدري ما الإيمان، ولا تعلم الشريعة والدينَ والدعوةَ وبداياتها وغاياتها وتبعاتِها وسُنَن الله في الكون والحياة، والهدى والضلال… ولكنه أرادك أن تكون قارئاً بكل معاني القراءة “فَصِرْ قارئاً”، وتحَوَّلْ من أُمِّيّ إلى قارئ فاهِمٍ عالم بالقوة الحقيقية المتحكّمة في الكون كُله، وعالم بالرّحمة المُهْداة للكون كُله في شكل إرسال الرسل للهداية، بلْ وتحوّل إلى منبع للعلم والرحمة، ومُعَلِّم للإنسانية الوجهة الصحيحة للرْشد والصلاح والإصلاح ومعرفة الحقِّ من الله ربّ الحقّ ليُؤدِّي الإنسان وظيفته بالحق.

كل ذلك يتم ويتحقّق بإذن الله تعالى وحوْله وقوته وفضْلِه، إذْ بهذا التحوّل تُصْبِحُ خلقاً  آخر، وتُصْبح معجِزةً دالَّةً على الرُّبوبيّة والنبوة معا، كدلالة تحوُّلِ العصا إلى حيّةٍ تَسْعى، والنار المُحْرِقة إلى بَرْدٍ مُنسجِمٍ مع طاقَةِ ابراهيم عليه السلام. فمن عرف حالك قبل الأمر بالقراءة وبعده مَيَّزَ جيِّداً بَيْن الحالَيْن، وعرَف حُجَّة النبوة والرسالة وأَمَاراتها وصِدْقها من ذاتِ النّبيّ نَفْسه لا من خارجها، كما يُعْرف الحقُّ من ذات ِالحقِّ نفْسِه، وكما يُعرف الصِّدْقُ من ذات الصادِق نفْسِه.

ب- بما أن التحوّل تمّ بإذن الله تعالى فهو المستعان سبحانه وتعالى على تبعات القراءة ومتطلباتها في عالم يموج بالزيغ والانحراف. فمن تأمّل الزمن القصير الفاصل بين البدء بالقراءة والدّعوة وبين الانتصار الشامل للدعوة تيقن أن ذلك ما كان ليحصل لولا عوْن الله تعالى وتأييده، وتيقّن أن استصعاب الدَّعْوة زمن الغلبة لا مَعْنى له، فلم يبْق إلا إحسان العبودية واستمداد العون، وإحْسان الأسباب والسُّنن الكونية، فكل شخص كيفما كان يرى نفسه عاجزاً عندما ينظر إلى طاقته، ولكنه عندما يتوكل على الله تعالى يصبح كالتّيار الكهربائي المُوَصِّل للنور على مسافات بعيدة جداً.

جـ- القراءة باسم الله رب الإنسان والكون هي النور الأوليّ الضروري لبداية التحوُّل جهة الفرار إلى الله تعالى والاحتماء به من شقاوة التصحر الإيماني.

وحُق للمسلمين أن يجعلوا >باسم الله< شعاراً لهم في كل حركة ونشاط خصوصاً وأن الله تعالى نزع البركة من كل عمل لم يُبدأ فيه بـ”باسم الله”، وحرم الذبيحة التي لم يذكر عليها “اسم الله” عمداً، فقال: {ولا تاكلوا مما لم يُذْكر اسم اللّه عليه وإنّه لفسق}-الأنعام: 122-.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>