الحكم الإسلامي لا ينطلق من فراغ


موقف بني إسرائيل في خضم المطاردة لموسى من قبل فرعون

عندما كان موسى عليه السلام يكافح لتحرير قومه من ظلم الفراعنة واجه متاعب جديرة بالتأمل، وجل هذه المتاعب كان من قومه أنفسهم.

أصدر إليهم الأمر أن يرحلوا من مصر في ليلة موعودة، وأن يستخفوا تحت جنح الظلام متجهين شطر البحر الأحمر، واستجاب اليهود للأمر الذي أصدره قائدهم، فلننظر: أكانوا متلهفين للخروج من مصر؟ أكانوا متعشقين للحرية ا لتي فقدوها والأمان الذي حرموه؟ أكانوا كارهين لجو تذبح فيه الأبناء وتستحي النساء، ويصب فيه البلاء؟

إن هذا ما يتبادر للأذهان.غير أن الواقع غير ذلك، فإن بني إسرائيل كانوا قد ألفوا الدنية، واستكانوا للضيم على نحو ما قال أبو الطيب :

من يهن يسهل الهوان عليه   ما لجرح بميت إيلام

قال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على  خوف من فرعون وملئِيهم أن يفتنهم} (يونس: 83)، إن بعض الشباب الحديث السن، السليم الفطرة، هو الذي اعتنق رسالة موسى، وقرر أن يقاوم معه الجبروت، ومضى مع أحلام المغامرة ينشد مستقبلا أشرف. أما الشيوخ وسواد اليهود فقد قيد مسالكهم الخوف، ولم يتحمسوا لدعوة الحرية. وقد انكشفت خباياهم لما قرر فرعون ملاحقة الهاربين من بطشه، وخرج على رأس جيش كبير ليستعيد قوم موسى إلى السجن الذي فروا منه.

كانت مطاردة مثيرة، اليهود يشتدون نحو الساحل عابرين الصحراء الشرقية، وفرعون وراءهم يريد أن يدركهم.

ويصف الإصحاح الرابع من سفر الخروج هذا الموقف قائلا: (فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم، وإذا المصريون راحلون وراءهم، ففزعوا جدا، وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب وقالوا لموسى : هل لأنه ليست لنا قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟ ما ذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين: كف عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية)؟

إن هذا الكلام ناضح بالنذالة والجبن واستمراء الدنية، والواقع أن الشعوب التي برحت بها العلل لا يمكن أن تبرأ من سقامها بين عشية وضحاها، إنها تحتاج إلى مراحل متتابعة وسنين متطاولة من العلاج المتأني الصبور حتى تَنْقَهَ من بلائها.

من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن جزء من العلا ج.

وقد رأيت بعد تدبر عميق أن الشعب الإسرائيلي أول أمره لم يتبع موسى عن عزة نفس أو صلابة يقين، لعله تبعه عن تجاوب عرقي أو تعصب قبلي، ثماستفاد الأخلاق والإيمان في مراحل متأخرة.

وملاحظة العقل اليهودي، والتاريخ اليهودي تؤكد هذا الاستنتاج.

ونحتفظ بهذه النتيجة الآن لنعرف نهاية المطاردة بين فرعون وموسى. لقد صورها القرآن الكريم في هذه الآيات: {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْقٍ كالطود العظيم، وأزلفنا ثَمّ الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين} (الشعراء: 61- 66).

إن الله لم يخذل نبيه، بل سانده بقدرته الخارقة، ولم يترك الجبابرة ليستأنفوا فسادهم في الأرض، بل أخمد أنفسهم بضربة ما توقعوها قط.

ونظر بنو إسرائيل فوجدوا أنفسهم سالمين على الشاطئ الآخر، كما أحسوا أن قتلة الأمس قد طاحوا، فلا عدوان عليهم بعد.

فبماذا استقبلوا هذه النعماء الغامرة؟ وماذا فعلوا لمسديها الجليل؟

لقد تيقظت في أنفسهم الوثنية، وأعجبتهم عبادة الأصنام، فتقدموا إلى نبيهم في بلادة هائلة ليجعل لهم صنما. قال تعالى:{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون, إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون, قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين}(الأعراف : 138- 140).

وأي فضل أعظم مما تم : أن يرثوا الأرض، ويغلبوا العدو، ويمنحهم فرصة السيادة؟ بيد أن شيئا من ذلك لم يغير خستهم، إن أثقالهم النفسية حطت بهم في مكان سحيق.

وجاء الاختبار التالي، فإن الله لم يكلف اليهود بمحاربة فراعنة مصر، ومحاربة الطغاة مطلوبة حيث كانوا، إلا أن الإسرائيليين كانوا أقل وأذل من ذلك, لقد كلفوا بمحاربة الجبابرة الذين يسكنون فلسطين، ووعدوا بأنهم في هذه الحرب سوف ينتصرون.

وجزع اليهود لهذا التكليف، ولم يطمئنهم هذا الوعد. إنهم أحرص الناس على حياة، وهيهات أن يعرضوا أنفسهم لخطر. كيف يطلب منهم قتال؟.

يقول لي الأمير بغير جرم   تقدم حين جد بنا المراس
فما لي إن أطعتك من حياة   وما لي بعد هذا الرأس راس

جاء في القرآن الكريم على لسان موسى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على  أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها} (المائدة: 21- 22).

ووصفت التوراة حال الشعب اليهودي عندما سمع هذا التكليف: (فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر الشعب على موسىوعلى هارون، وقال لهما: ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا متنا في هذا القفر لماذا أتى  بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف)؟

…وكان لابد من قرار إلهي قاطع

إن هذا الشعب محتاج إلى تربية طويلة الآماد، تكبح جماحه وتقتل رذائله، وتفتح بصيرته على لون آخر من الحياة الرفيعة, والإيمان بالله واليوم الآخر.

فلتكن سيناء مصيدة محكمة الجدران يضطرب داخلها، ويعيش وراء حدودها لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد، وليبق على تلك الحال أربعين سنة. أربعين سنة، يهلك فيها الذين شاخوا في الفساد، ويتدبر أمره في سجنها الطويل من عاشوا لا يفكرون إلا في مآربهم. وستنضج خلالها الذرية التي آمنت بموسى، وتبلغ مرتبة الرجولة التي تتصرف في نفسها وفيما حولها، أربعين سنة يخرس فيها من كانوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويخطب فيها بقوة من كانوا يهمسون بالحق فتكمم أفواههم.

إن الأفراد المدمنين للمخدرات يحتاجون إلى مستشفيات تفنى  فيها عاداتهم السيئة، وتحيا فيها عادات جديدة تصح بها أجسامهم وأعصابهم، فكيف بأمم تواضعت على تقاليد رديئة وأعراف فاسدة؟

إن هذه الأمم محتاجة إلى جو تتنفس فيه هواء أنقى، وتسمع فيه إلى دعاة الحق وهم يهدونها سواء السبيل.

وقد طالت المدة على بني إسرائيل في سيناء. مات في هذه الفترة موسى وهارون، وتركا وراءهما شعبا يتولى القدر تأديبه، ويتدرج بشتى الوسائل على رفع مستواه، ولم يكن من هذا بد، إن الأمم لا تترك السفوح إلى القمم بكلمة عابرة من واعظ مخلص، أو مدرس بصير،  الزمن جزء من العلاج.

استوقفتني في هذا المعنى فكاهة ذات مغزى : قيل إن ثعلبا جائعا انطلق يبحث عن طعام، فرأى من سرداب طويل إناء مشحونا بما لذ وطاب، فوثب داخل السرداب الضيق وتلطف حتى بلغ الإناء، ثم أخذ يكرع منه حتى امتلأ، وحاول العودة من حيث جاء فعجز، لأن بدنه انتفخ فما يستطيع التقهقر!! ولقيه في محبسه هذا ثعلب عجوز عرف القصة من بدايتها، فقال للثعلب الصغير : ابق في مكانك هذا حتى تجوع وتعطش وتخف وتنحف، وعندئذ تقدر على  الخروج؟

قلت ضاحكا: الزمن جزء من العلاج.

لكن ما تكون عليه حال الدنيا خلال هذا الزمن المفروض؟ إن الجبارين الذين أُمر بنو إسرائيل بمقاتلتهم سيبقون مفسدين في الأرض ينشرون في أرجائها الكفر والذل، سيبقون كذلك عشرات السنين، فكيف ترضى الأقدار بهذا العوج؟

وأجيب: لا بد من وارث شريف للحضارة المعتلة، وإذا كان حملة الوحي الإلهي ليسوا أهلا لهذه الوراثة فهيهات أن يقودوا.. سواء حملوا التوراة أو الإنجيل أو القرآن.

وقد تنبأت بأن المدنية الحديثة سوف تبقى عصرا آخر لا أدري مداه، سوف تبقى  مع كفرها باليوم الآخر، ونسيانها الوضيع لله، وظلمها للضعاف والملوّنين، وتهتكها في طلب الشهوات بكل وسيلة.

لماذا؟ لأن حملة الوحي يفقدون من الناحيتين الفكرية والنفسية مؤهلات القيادة، بل أعرف -وأنا عربي أعيش بين العرب- أن لدينا رذائل من نوع آخر لا تقل عن رذائل المعطّلين والمثلّثين، يستحيل معها أن نكون أهلا للصدارة، بل يستحيل معها أن يقع زمام القافلة البشرية في أيدينا.

إن فساد المبتعدين عن الله، الجاهلين بحقوقه، سوف يعلل بأنهم لا إيمان لهم.

أما فساد المتدينين فإنه يرتد إلى الدين نفسه بالنقض، ويجر عليه تهما هو منها براء, فحكمة الله واضحة في تأخير المتدينين الجهلة وحرمانهم من السلطة.

والأمة الإسلامية منذ بضعة قرون تتدحرج إلى أدنى، والمصلحون الذين هم شهداء عليها يوم القيامة لا يلقون منها إلا عنتا، وقد فقدت في أثناء هذا التدحرج أمرين جليلين :

أولهما: الشمائل الإسلامية التي اختصت بها الرسالة الخاتمة.

والآخر: الملكات الإنسانية التي تتمتع بها الشعوب الراقية، والتي تجعلها سباقة في ميادين الحياة المادية والأدبية.

أذكر أنه جاءني يوما أحد الدعاة في حال من الغضب الشديد يقول لي : أترى إلى حكومتنا وهي تدعو إلى تحديد النسل؟ يجب أن تنضم إلينا في محاربتها.

قلت له وأنا متثاقل : إن التحديد المقترح لا يحل المشكلة القائمة. إن المشكلة تكمن في عدم وجود الإنسان السوي، والمجتمع الناشط.

قال لي : إن تعاليم الإسلام هي تكثير النسل. قلت له : نعم، وله تعاليم أخرى في تكبير الشغل. قال : ماذا تعني؟ قلت : لماذا تريد الزواج والنسل الكثير على أن يقوم غيرك بالإنفاق على زوجك وولدك؟ إنكم لا تعمرون الأرض وتثيرونها كما أثارها غيركم وعمَّروها، إنكم لا تستخرجون خيرات الأرض من خباياها وظواهرها كما استخرجها غيركم من أنحاء البر والبحر.

إنكم بدوافع الرغبة الحيوانية تصيحون في طلبي الزواج والأولاد، وتطلبون الكثير الكثير، فَعَلاَم يدل هذا؟ على أن العقل الإسلامي يعرف رغبته يسمع صوتها, ولكنه لا يعرف واجبه ولا يلبي نداءه.

ثم استتليت: لا الشعب يدري، ولا السلطة تدري، ظلمات بعضها فوق بعض!!.

إن المثال السابق سقته إثر واقع عرض لي وأنا أكتب الآن, وهو يخدم الفكرة التي أريد إبرازها، وهي أن علل الأمم لا  تداوى بالارتجال السريع، والرغبة النزقة.

والشبان الذين يظنون أن الإسلام يمكن أن يقوم بعد انقلاب عسكري أو ثورة عامة لن يقيموا إسلاما إذا نجحوا. فإن الدولة المحترمة وليد طبيعي لمجتمع محترم، والحكومة الصالحة نتيجة طبيعية لأمة صالحة، أما حيث تتكون شعوب ماجنة وضيعة فسيتولى الأمر فيها حكام من المعدن نفسه {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} (الأنعام: 129)

والاتجاه إلى الجماهير لغرس العقائد، وتزكية الأخلاق، وإنشاء تقاليد شريفة، وإقامة شواخص ماجدة ترنوا إليها البصائر، وإقامة الصلاة جماعة بعد جماعة، أعني وقتا بعد وقت من الفجر إلى العشاء، وتحصين الرجال والنساء ضد الانحراف والانحلال، والتغلغلفي الأسواق والميادين والمنظمات والنقابات لإحياء كلمات الله وإنفاذ وصاياه. ذلك كله كان طريق الأنبياء وحوارييهم ومن نهج نهجهم.

ولم تقع معركتا بدر والفتح إلا بقَدَرٍ أعلى انساق إليه المسلمون دون خطة سابقة أو إعداد مبيت.

أعرف أن عددا من الحكومات مرتد عن الإسلام يقينا، وأنه لن يدخر وسعا في مقاومة المد الإسلامي وفتنة أهله، وعلاج ذلك يتم بالتزام الخط الذي رسمه الأنبياء، والصبر على لأوائه وضرائه، فهو -وإن طال المدى- أقصر الطرق إلى الوصول، وأولاها برعاية الله، وأبعدها عن الأطماع والشبهات.

ولا تحسبن هذا الخط أبعد عنالمخاطر وأقرب إلى السلامة، إنه صعب التكاليف ثقيل الأعباء، وقد رأيت أعداء الإسلام يرقبون هذا الخط بحذر ويرون أصحابه هم الأعداء الحقيقيين لهم.

إن قصة خدمة الإسلام عن طريق الانقلابات والثورات راودت أناسا لهم إخلاص وليست لهم تجربة، ولم تنجح من سنين طويلة هذه المحاولات، ورأيي أنها لو نجحت فإلى حين، ثم يبدأ الجهاد لتنظيف الشعوب من أقذائها، وإحداث تغيير جذري في أخلاقها وعاداتها، أي أننا سنرجع إلى الإصلاح الشعبي عن طريق الشعب نفسه لا عن طريق الأوامر الرسمية.

لست أنكر قيمة السلطة في اختصار المسافة، وإقرار المعروف ومحو المنكر، وإني أعلم أن الدولة جزء من الدين، وأن أجهزتها الفعالة جزء من شُعَبِ الإيمان السبعين.

وكون الحكم من شعائر الإسلام حقيقة لا يماري فيها إلا جاهل أو جاحد.

وهذا كله لا يلغي ولا يوهن عمل الأمة نفسها في تثبيت العقائد والأخلاق والعادات الحسنة، وفي إعلاء سلطان الضمير وتتبع مسارب السلوك الخفية والجلية، وفي فرض رقابة دقيقة على أجهزة الحكم، وإبطال شرعيتها إن هي نسيت وظيفتها أو جاوزت حدودها.

إن الدولة في الإسلام صورة ظاهرة لباطن الأمة، وهي يدها التي تحقق بها ما تبغي، وقدمها التي تسعى بها إلى ما تريد.

بيد أن ضراوة الطباع البشرية السافلة قلبت هذا كله رأسا على عقب، وأمكنت ناسا من عبيد ذواتهم أن يفهموا الحكم على نحو آخر، إنهم لم يفهموه عبادة لله بل سيادة على  الآخرين، ولم يفهموه أمانة ثقيلة ا العبء بل فهموه مغنما لذيذ الطعم، وتطاولت هذه الحال على الأمة المنكوبة فأصابها من الضياع ما أصابها.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن وضع قريش بين القبائل العربية يجعل الأمور تتدافع إليها، ويجعلها مرشحة أكثر من غيرها لتولي السلطة، فأحب أن يشعرها بما لها وما عليها لترغب وترهب، روى أحمد في مسنده عن أبي موسى  الأشعري قال: “قام رسول الله على باب بيت فيه نفر من قريش، وأخذ بعضادتي الباب، فقال: هل في البيت إلا قرشي؟ فقيل: يا رسول الله، غير فلان ابن أختنا، فقال: ابن أخت القوم  منهم. ثم قال: إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا -يعني المال- أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل”(1).

وقد قامت لقريش دولة بل دول في المشارق والمغارب، فهل راعت شروط الاستخلاف، أم جرت على الإسلام وأمته المتاعب؟.

لقد لبث الحكم في أيدينا أحقابا، فلما لم تحسن الأمة الإفادة منه في دعم رسالتها ورفع رايتها، انتزعه الآخرون منها، وهاهي ذي تلهث لتستعيده.

وهو إن شاء الله عائد إلينا طال الزمان أو قصر، غير أنه لن يعود حتى  تختفي من بيننا أوهام كثيرة في فهم السلطة, وحتى ترقى أمتنا ماديا ومعنويا فتكون الدولة في يدها لخير الجماهير لا لإرضاء فرد مغرور.

إن فن الحكم في العالم المعاصر قد ارتقى  إلى أوج بعيد، وفي انجلترا مثلا يستطيع عامل في أحد المناجم أن يجابه الحكومة دون أن تخالجه ذرة من قلق، وقد ينتصر أو ينهزم فلا يزيده نصر ولا تنقصه هزيمة.

ولو وقع ذلك في بعض الدول الإسلامية لأمر الحاكم بقطع عنقه، ولمرت الدهماء على جسده الملقى  يقولون : ما دخلك يا صعلوك في سياسة الملوك؟.

إن الشعب والحكومة معا دون مستوى  الإسلام الذي ينتمون إليه، بل هم والحق يقال عار عليه. لقد اختفت تحت أطباق الثرى تقاليد الخلافة الراشدة، وبقيت في العقل الباطن للدهماء تقاليد السلاطين الذين هم ظل الله في الأرض، وفتاوى  العلماء الذين تواصوا بقبول الأمر الواقع، أو بالتعبير الفقهي الخضوع لمن نالوا الحكم بالغلبة والقهر.

ثم كان من احتكاك المسلمين بغيرهم من أهل الأرض أن ظهرت وطبقت فلسفة الديمقراطية، ورأى من لهم فقه وتقوى  أنها قريبة من “الشورى الإسلامية”, فكيف انتقلت إلينا “ديمقراطية” الغرب؟

إن الحكم الفردي صالح بينها وبين رغبته، ويستطيع الحاكم “الملهم” في بلاد الإسلام أن يظل عشرات السنين، ينتخب هو وحده لا غير، عشر مرات أو أكثر ما دام حيا.. ويقول هذا الحاكم للمتدينين: هذه هي الشورى  التي تنادون بها، ويقول للناس من وراء الحدود، أنا وليد انتخابات حرة، وإرادة شعبية.والأرض والسماء يعلمان أن هذا كذب وزور.

والأمر يحتاج إلى تغيير جذري كما قلنا في كيان الأمة وعقلها وضميرها حتى لا تمر هذه المهازل أبدا

ويضحك أولوا الألباب ومن حقهم أن يبكوا عندما يسمعون متحدثا باسم الإسلام يصحح هذه الأوضاع.

هل تحتاج أمتنا إلى  أربعين سنة تصح فيها كما احتاج بنو إسرائيل؟ لا أدري كل ما أقدر على قوله: إن الإسلام لا يقبل حكما عسكريا، ولا يعرف خرافة ” الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع يزيد”، وإن على دعاة الإسلام شرح الإسلام من خلال تعاليمه لا من خلال تقاليد عصور الانحطاط والفوضى في تاريخه المديد.

عليهم أن يعدوا قتيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شهيدا أغر الجبين لا صعلوكا يقاوم السلاطين، فإنهم بهذا المنطق الجبان لن يكونوا مسلمين، ولن يصلحوا لقيادة أنفسهم بله أن يقودواالعالمين.

الشيخ محمد الغزالي رحمه الله

————

(1)أي لا تنفعه توبة ولا فداء.

عن كتاب : الطريق من هنا

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>