شذرات من مفهوم الاصلاح العقابي في الدولة الإسلامية


لقد ألغى الإسلام كثيراً من العقوبات البدنية وعوّضها بعقوبة الحبس أو السجن، وهي إجراء لم يكن ممارساً من قبل بمفهومه الجزائي. وذلك لسبب بسيط، وهو كون هذه العقوبة تستهدف سلب حرية المذنب الذي أثبتت إدانته قضائياً وعلنياً، ولم يكن من المتصور تطبيق عقوبة الحبس أو السجن في حالة انعدام موضوعها وهو الحرية المستهدف سلبها وحرمان صاحبها منها. ومن المعروف والمعلوم أن أروبا لم تطبّق عقوبة السجن إلاّ ابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي. في حين أن هذه العقوبة بدأ تطبيقها في الدولة الاسلامية منذ قيامها في المدينة المنوّرة. وكان ذلك في أول الأمر يتخذ صورة حرمان الفرد من حرية الحركة والتنقل من مكان إلى آخر. وقد اشترى عمر بن الخطاب ] داراً في المدينة لتخصيصها لإيداع الأشخاص المحكوم عليهم بالحبس وسُمِّيت “سجناً”.

إن نظام السجن في الدولة الإسلامية تطور مع تطور المجتمع الإسلامي. ففي البداية كان هناك التزام دقيق بمبادئ الإسلام، فكان تنفيذ العقوبة يقتصر على تقييد حركة المسجون بوضعه في مكان لا يغادره إلاّ بعد نهاية المدّة المحكومة عليه بها دون المساس بأي حق من حقوقه : حقه في سلامة جسمه، حقه في سلامة عقله، حقه في البقاء على عقيدته وما يؤمن به. كما أنه كان لا يحق وضع المسجون في ظروف من شأنها الانتقاص من كرامته أو تعريضه للإذلال والمهانة والحط من إنسانيته، لأن ذلك يتعارض وتكريم الله عز وجل للانسان. لذلك كان يوفّر للمسجون الطعام المناسب والملائم كمّاً وكيفاً وكذلك الملبس والدواء. وقد استمرّ هذا الوضع على امتداد فترة حكم الخلفاء الراشدين وفي بداية عهد الأمويين، ثم بدأت أحوال السجن في التدهور مع قيام الدولة العباسية.

وفي ظل سيادة تدهور حالة السجون بالدولة الإسلامية ظهر أوّل رائد من روّاد الإصلاح العقابي وهو القاضي أبو يوسف، أحد تلاميذ أبي حنيفة النعمان، والذي اقترح على الخليفة هارون الرشيد إصلاحاً شاملاً للمؤسسة العقابية مفاده توفير المأكل والمشرب الملائمين وعدم إجازة ضرب المسجونين لأن “ظهر المؤمن حمى من حق يجب بفجور أو قذف أو سكر أو تعزير لأمر أتاه فيه حدّ”.

هكذا وضع القاضي أبو يوسف أسس المعاملة العقابية داخل السجون في القرن الثاني الهجري قبل أن تعرف أروبا العقوبات السالبة للحرية بتسعة قرون وقبل أن تقوم الأمم المتحدة بوضع ما يسمى بقواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين بأحد عشر قرناً.

ومع ذلك مازال أساتذة علم الاجرام، حتى العرب والمسلمين منهم، يصرون إصراراً على أن “بيكاريا’ هو رائد الاصلاح العقابي في العالم، ومازالوا يروّجون أن العقوبة السالبة للحرية ظهرت أول ما ظهرت في فرنسا وانجلترا.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>