قراءة في المذكرة المطلبية في شأن حقوق المرأة المرفوعة إلى الوزير الأول


مالفت انتباهي لأول نظرة على جريدة -الأحداث المغربية العدد 844 بتاريخ 13 ماي 2001 العنوان الذي تصدر الصفحة الأولى بحروف بارزة “مدونة الأحوال الشخصية أصبحت متجاوزة”.

وقد طالبت المذكرة التي رفعتها اللجنة المحلية للقطاع النسائي لمنظمة العمل الديمقراطي بسلا بإلغاء التمييز في الولاية والزواج، وأحكام الطاعة، وطلاق الخلع، وتعدد الزوجات… واعتبرت المدونة لا دُستورية باعتبار أن الدستور المغربي ينص على الالتزام بحقوق الانسان كما هو متعارف عليها عالميا، كما طالبت بتفعيل إلزامية المو اثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب… وهكذا يتجلى للقارئ من خلال الاطلاع على محتوى المذكرة المطلبية أنها تحمل اتهامات خطيرة تثير عدة تساؤلات وعلى رأسها : ماذا يراد بالمرأة المغربية المسلمة؟

إن المطالبة ببعض الحقوق المهضومة للمرأة المغربية في مجتمعها المسلم أمر مشروع ومعقول، لكن ما يثير الانتباه هو الفلسفة الكامنة وراء هذه المطالب والنموذج الذي تسعى إليه هذه الأطروحات النسوانية حول المرأة.

أى نموذج ينادين به؟ وهل المطالبة بالحقوق التي تضمنتها المذكرة مقصودة لذاتها؟ أم أن وراءها ذات؟

لماذا لا تدافع هذه الأطروحة عن حقوق المرأة المغربية ضمن المرجعية الدينية للمجتمع الإسلامي؟ فرفض المدونة جملة مع الدعوة إلى مشروع بديل ينطلق من المساواة الكاذبة ويُحكم المواثيق الدولية إنه لأمر خطير وخطير جدا، فهو لا يسيء الى الفئة النسوية التي حررت المذكرة المطلبية فحسب، ولكن يهين وطنها وهوية أمتها المغربية التي ينص دستورها على أن الإسلام دين الدولة، فكيف تعتبر المدونة في نظر اللجنة النسوية لا دستورية، ونصوصها مستلهمة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أليس هذا تحديا خطيرا، وانتهاكا فظيعا لهوية الأمة المغربية المسلمة بأكملها؟..

فإذا كانت بضعة آلاف من النساء المغربيات تمكّن من إزاحة التبعية عنهن بفضل وصولهن إلى الجامعات والمعاهد التكوينية، والحصول على وظائف بأسلاك الدولة وبمختلف الإدارات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والحزبية، فإن ملايين المغربيات لازلن يعتبرن أنفسهن سعيدات بتبعيتهن للأزواج، ويحمدن الله عليها غير مباليات -رغم وعي أكثرهن- بما يجري على الساحة من صراعات حول التسابق إلى أماكن القرار السياسي، والعبرة في مثل هذه المواقف بالأكثرية ا لساحقة، لا بالأقلية الضئيلة الهزيلة التابعة لأعداء الدين الذين يعملون على تحريكها لخلخلة وتقويض القواعد الأساسية الصلبة التي تبنى عليها الأسرة المغربية  المسلمة.

فالمدونة يمكن مراجعتها من فترة لأخرى لتدارك ما فيها من هفوات والعمل على إصلاحها وتطوير وتبسيط إجراءاتها لتساير التطور السريع الذي تعرفه الحياة البشرية، لكن هذا لا يعني إلغاء المدونة والحكم عليها بالتأخر والتجاوز وعدم صلاحيتها للوقت، لأن هذا الحكم فيه تجاوز خطير، يفضي إلى إلغاء كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم عليه السلام، وهما المصدران الأساسيان لشريعة الاسلام السمحاء، المتميزة بالصلاحية لكل زمان ومكان، لأن مصدرها الخالق جل وعلا، فكيف تستبدل بقيم الحداثة الفجة، والعولمة المتغطرسة، التي تهدف بالأساس إلى طمس الهوية الدينية والثقافية للأمم الإسلامية.

فإلغاء التمييز في الولاية -كما ورد في المذكرة المطلبية- مطلب تحكمه النصوص الشرعية، فالآيات القرآنية الواردة في النكاح تضيف العقد على المرأة للرجل، ولنتأمل قول الله عز وجل : {ولا تنكحوا المشركين حتى يومنوا} وقوله أيضا {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} فالولاية في الزواج تعني حق الولي في أن يتولى عقد زواج المر أة التي تحت ولايته، قال عليه السلام : (لا نكاح إلا بولي) أي أنه لا يوجد عقد نكاح شرعي إلا بولي.

أما حكم الطاعة : فعقد الزواج يستتبع بأن يكون للرجل حق الطاعة والقوامة على زوجته قال تعالى : {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} وهو ما تشير إليه المدونة صراحة بقولها (طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف) يقول الله عز وجل : {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}.

ونظرا لحق الزوج في الإشراف والرئاسة فإن من واجب الزوجة الطاعة، لأن هذه الطاعة هي أساس استقرار الحياة الزوجية، وتعتبر واجبا دينيا، فالرجل في شريعة الله رب البيت وقيم الأسرة، وهذه ميزة تكليف أكثر مما هي ميزة تشريف، والغرض منها أن يسير البيت وفق نظام سائد، لا وفق مآرب متدافعة ورغبات متنازعة.

- أما الخلع : فالأصل فيه قوله عز وجل : {ولا يحل لكم أن تاخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله، فإن خفتهم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}.

ومن السنة النبوية الشريفة ما رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله  فقالت : يا رسول الله إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الاسلام فقال ، أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم، فقال رسول الله  أقبل الحديقة، وطلقها طلقة<. فالخلع إذن هو طلاق يقع في مقابل عوض تبذله الزوجة للزوج بناء على التراضي بينهما، ولا يحصل من جانب واحد، وهذا ما أكدته المدونة في الفصل (61) بقولها : “للزوجين أن يتراضيا على الطلاق بالخلع”.

فهل يعتبر مفهوم طلاق الخلع من المفاهيم ذات الحمولة التشيينية للمرأة كما جاء في مطلب المذكرة؟ وهل يعقل أن يعتبر البند متجاوزا وهو مقتبس من كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام؟ وكتاب الله صالح لكل زمان ومكان هل تضاهيه القوانين الوضعية فيما يضمن للمرأة من حقوق سامية متكاملة؟.

إن كل حضارة قامت على الحرام انهزمت وزالت، وإنه لا بقاء لأمر أو لحكم مالم يقم على أساس من منهج الله الذي يصلح به كل شيء.

إلغاء تعدد الزوجات أو تقييده بقيود شديدة تجعل الزواج بأكثر من واحدة ضربا من المستحيل، مما يجعل لهذا المطلب صدى مستحبا عند خصوم الاسلام وأعدائه، وتأييدا مطلقا لأنه يمثل “خطوة تقدمية في سبيل تحرير المرأة”. هذا الذي تسعى إليه بعض الجمعيات النسائية في بلدنا المسلم ليس إلا مجرد إرضاء للغربيين وأتباعهم الذين ينادون بدعوة التقدمية الى الانسلاخ عن الاسلام، والتحرر من ربقة الدين والأخلاق، استرضاء للملاحدة على حساب كرامتنا وديننا الحنيف، وإلا فما هي نسبة التعدد في مجتمعنا المغربي الحديث؟ إنها حسب الدراسات الحديثة تمثل نسبة ضئيلة للغاية وليست بالظاهرة المخيفة إطلاقا، بل أصبح الدافع إليها بالدرجة الأولى مرض الزوجة أو عدم قدرتها على الإنجاب..

ومع ذلك فإن نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة واضحة في هذا الشأن من إباحة تعدد الزوجات، وفي ضوء هذا المبدأ الاسلامي عدد النبي زوجاته، وعدد الأصحاب والتابعون زوجاتهم، ودرج المسلمون في جميع عصورهم، وجميع طبقاتهم يعددون الزوجات متى دعت الحاجة لذلك، ويرون مع العدل الذي طلبه الله من الأزواج حسنة من حسنات الرجال إلى النساء وحسنة الى الرجال أنفسهم، وحسنة إلى الأمة جميعا، ولم يثبت عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أنه استأذن للزوجة الأولى.

وبالعودة الى شريعتنا السمحاء تتجلى الحكمة الإلهية من التعدد وتتضح فوائدها الاجتماعية والشخصية، والخلقية، وأركز هنا على بيان الحكمة الخلقية من التعدد، المتجلية في أن الأمة التي يكون فيها عدد النساء أكثر من عدد الرجال يكون التعدد واجبا أخلاقيا واجتماعيا على السواء، لأن التعدد أفضل من تسكع النساء العازبات في الطرقات وأماكن الفجور، لا عائل لهن، ولا بيوت تأويهن، ولا يوجد من يحترم كرامة المرأة، ويقدّر مصلحة المجتمع، يفضل انتشار الدعارة على تعدد الزوجات.

وما سبب عزوف الشباب عن الزواج في مجتمعنا المغربي الحديث إلاّ أكذوبة تحرر المر أة، وتشبعها بقيم الغرب التي لا تمت بصلة لثقافتنا الاسلامية، مما شجع على الفساد الأخلاقي، وبالتالي انحراف الشباب وانغماسهم في الفاحشة الجنسية، وعزوفهم عن بناء الأسرة القائمة على العِفة والطهارة والمودة، وسمو الأخلاق الفاضلة.

وقد تنبه المنصفون الغربيون إلى ما ينشأ من منع التعدد من تشرُّد النساء، وانتشار الفاحشة بشكل مثير، وظهور الأمراض الخطيرة الفتاكة، وكثرة الأولاد غير الشرعيين، فأعلنوا أنه لا علاج لذلك إلاّ السماح بتعدد الزوجات.

فهذه إحدى السيدات الانجليزيات تقول : “لقد كثرت الشاردات منبناتنا، وعم البلاء، وقل الباحثون عن أسباب ذلك، وإذا كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنا، وماذا عسى أن يُفيدهن بثي وحزني؟ وإن شاركني فيه الناس جميعا لافائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة، وللّه درُّ العالم “تومس” فإنه رأى الدّاء ووصف له الدواء الكامل الشفاء، وهو الإباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في اجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة”.

وهذه الكاتبة الفرنسية : مريم هار يوهي تنادي : يا أخواتي العزيزات… لا تحسدننا نحن الأوربيات، ولا تقتدين بنا، إنكن لا تعرفن بأي ثمن من عبوديتنا الأدبية اشترينا حريتنا المزعومة، أقول لكن إلى البيت.. إلى البيت… كن حلائل… إبقين أمهات، كن نساء قبل كل شيء” ويقول غوستاف لبون في كتابه حضارة العرب : “إن مبدأ نظام تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب، يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تراهما في أوربا”.

أبعد هذه الشهادات والصيحات التي سمعناها من بعض المنصفين الغربيين والتي تعبر عن ثورة غاضبة على الفوضى التي تسود المجتمع الغربي وأسره الغارقة في المادة، والضاربة في الانحلال الذي يجعل من جسد المرأة مدخلا إشهاريا لكل سلعة من سلَعه المستهلكة صباح مساء بالقنوات الفضائية ووسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، يبقى المطالبة بتطبيق النموذج الغربي القدوة في بناء الأسرة المغربية؟ وهو ما يصبو إليه أنصار الثورة -على المدونة- مطلبا معقولا؟

إن هذه الصيحات دعوة صريحة إلى الرجوع للقيم الإنسانية السامية المستلهمة من شريعتنا السمحاء، هذه الشريعة التي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمع أسرة، فيه صلة الرحم، وفيه تكافل الأفراد “الأقارب” وفيه الزوج والزوجة والأولاد. فإذا انهدمت الأسرة انهدم المجتمع وضاع.

إن الاتجاه الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه المنادون بالتغيير والتجديد هو أن تكون دعوتهم مرتبطة بطبيعة الاسلام وألا يتخذوا قوانين الغرب والمواثيق الدولية قبلتهم وسندهم في الإجهاز على ما تبقى من قوانين التشريع الإسلامي التي تحكم قسم الأحوال الشخصية في بلدنا العربي المسلم، وفقنا الله جميعا لما فيه خدمة أُسَرِنا ووطننا المسلم.

ذ. محمد رمضاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>