أوراق في قضايا التربية والأسرة : واقع الأسرة المسلمة اليوم


إن الأسرة المسلمة اليوم تتأرجح بين تيارين هادمين، تيار القديم الفاسد الجاهل المريض الذي يعود إلى عصور من التخلف الإيماني والتأخر الحضاري والتفكير العامي الوليد من العادات الجاهلية والتقاليد الاجتماعية الناتجة عن تطور أعمى غير موجه، وتيار الجديد القلق المضطرب الذي يدعو إلى عبادة المادة والإبتعاد عن الهداية الإلهية مُقدما ثقافة فكرية واجتماعية غريبة في جوانب كثيرة منها عن مقومات أمتنا، عقيدة وتاريخا وأهدافا..

والحقيقة المنطقية الواضحة تفهمنا أن التيار الأول هو الذي أسلمنا إلى التيار الثاني، فكان الأخير من القوة والهيمنة في ظل عمر الاستعمار الطويل لبلادنا الإسلامية، بحيث كاد أن يكتسح أمامه كل خير، ويمحو في مجتمعنا بقايا جذور الإيمان القوية.

ولو درس المسلم العاقل ما فعله المستعمرون في بلاد الإسلام من تخطيط علمي منظم لإفساد شبابنا، وزعزعة الإيمان في نفوسهم بشتى الطرق، وتشكيكهم في تاريخهم وتراثهم، ونشر الاتجاهات الإباحية والحياة المائعة الضائعة الهادمة بينهم، إضافة إلى ما فعلوه من تحطيم قوى الحضارة النامية في بلادهم، وإعاقة تقدمها في جميع مجالات الحياة (إن الغرب اليوم يحرُس تخلفنا، ويحرص على إبقائنا في بؤرة التخلف والتبعية، حتى يتسنى له ترويج منتجاته الفكرية والثقافية إضافة إلى السلع التي يصنعها).. للعلم، إن المصيبة كبيرة، والمشكلة جد خطيرة، وأنه لم يعد يكفي أن نوجه إلى أبنائنا كلمات عامة شفهية : صلوا.. اقرؤوا القرآن.. خافوا الله..! بل لا بد من خطة هادفة وناضجة في داخل البيت تستطيع أن تقتلع جذور هذه المشكلة حتى لا تكون خطرا على مستقبل الأبناء والبنات.. هؤلاء الذين نعتربهم جيل المستقبل وعمدة الأمة في التغيير والانبعاث من جديد..

وفي سبيل الوصول إلى الملامح العامة لهذا التخطيط الإسلامي التربويالناضج، لابد من عرض المشاكل الخاصة داخل الأسرة، والتي تعكس واقعها الحالي.. والقاعدة العلمية في البحث تعلمنا تعيين المشكلة أولا، ثم محاولة فهمها وتحديد أجزائها، ثم وضع الحلول المناسبة لكل جزئية من جزئياتها كي يتكامل الحل في النهاية، فيقضي بذلك على المشكل دون تهريج أو فوضى، أو دوران في حلقة مفرغة من الكلام الذي أصبح في هذا الزمان مملا ويفتقر لكثير من العمل الدؤوب المثمر..

< أول المشاكل في رأينا : جهل رب الأسرة بالمبادئ العامة للإسلام وأهدافه الخاصة في بناء الحياة، وعدم الاطلاع على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ليتفهم دروسها وعبرها، وصورها الحياتية المملوءة بالحركة والقوة والإيمان.. ولا يقف جهله عند هذا الحد، بل يجهل واقع المجتمع الإسلامي ومشاكله وأوضاعه وتطوراته، ويجهل المخططات الاستعمارية المتنوعة لإفساد الأسرة المسلمة، وزعزعتها وتحطيمها في النهاية، وهذا الجهل يسوق إلى سوء التوجيه، وفساد التقدير، ويؤدي إلى ضياع الأسرة في متاهات هذه الحياة الصاخبة بالأحداث، والتيارات.. وبالتالي فإن حماس رب الأسرة لا يفيد ولا يخدم الأسرة، بل حتى حرصه على الفرائض، لأن ذلك لا يؤثر  في مجرى تفكير أفرادها المُشوّه عن الدين، غير المبني على أساس من الوعي والتفقه والمعرفة الواضحة والبعيدة عن العقلية العلمية..

< المشكل الثاني، عدم إدراك رب الأسرة (أو ربة البيت) اليوم للتربية المجدية التي يجب أن تتبع في مثل هذه الأوضاع الأسرية المعقدة، ومن خلال عمليات الاختلاط الاجتماعي الذي تقوده تيارات فكرية متشابكة جدا. فكثير من أرباب الأسر مازالوا ينطلقون من مكامن العنجهية والقسوة في معاملة الأولاد ظنا منهم أن هذا هو الطريق الطبيعي لتوجيه الأولاد توجيها سليما. وهؤلاء لازالوا يجهلون التركيب النفسي والاجتماعي الجديد لهذا الجيل، الناشئ عن الأمراض الحضارية الجديدة.. وآخرون مازالوا يعتقدون أن طريق محاربة مجلات الخلاعة في البيت، هو التمزيق والصراخ والسب والضرب.. وهم ما زالوا يؤمنون أن طريقة الإهانة والحبس للأولاد في غرف البيت، هو الطريق الصحيح لمنع الأولاد عن ارتياد الأفلام التي لا يريدونهم مشاهدتها.. وكل ما يفعله هؤلاء هو أن يصدروا أوامر صارمة في صباح أو مساء إلى الأولاد والبنات دون تفكير جدي في نقلها من عالم النظريات المجردة إلى عالم الواقع الحي، وإلى عالم السلوك العملي..

وإلى الورقة المقبلة بحول الله تعالى.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>