تأملات في: قصة داعية ((يس)) الشهيد -2-


-2 تشابُه الكفر في مُخْتلف المِلَل :

فبَعْدَ أن أقسم الله عز وجل بالقرآن الحكيم على أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المرسَلين ، وأنه من الهادين المهتدين الذين يدعون البشرية إلى الصراط المستقيم الضامن لمصلحتها وسعادتها.. بعد ذلك كله ذَكَر أن كِبارَ القوم المَرْضَى بالكِبْر والهوى قد طبع الله على قُلوبهم بإعراضِهم عن الدّعوة ومَكْرِهم السيّئ ضدها فأصبحوا من المجرمين الأشقياء الذين استوجبوا عقابَ الله تعالى، واستحقوا الطرد من دار الرحمة والرضوان.

وكفار قريش في الكفر والعناد والمصير لَيْسُوا أوَّلَ من شق عصا الطاعة على ربه فاستحق الجزاء المناسب، بل سبقهم أصْحَابُ القرية التي أرسل الله تعالى إليهم ثلاثة رسل فما لانتْ قلوبهم، ولا زالت الغشاوة عن بصائرهم، الأمر الذي اسْتدعى تدخُّل واحدٍ من أتباع الرسل المهتدين لإنقاذ الموقف، وتدارك المصير المحتوم قبل فوات الأوان، فلم يزدْهم هذا التدخُّلُ إلا عتوا واستكباراً أو جراءةً على الله وطغيانا.

هذا الشَّبَهُ في الموقف والمصير بين كفار قريش وكفار القرية نعم التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمومنين حتى لا يَيْأَسوا أو يهونوا ويضعُفوا أمام ضربات الأعداء ومكائدهم فالعاقبة للمتّقين الصابرين، والبوار والخسار للكافرين المجرمين في كل زمان ومكان.

-3 لداعية ياسين الشهيد شبيهٌ في عصر النُّبوة :

ذكر ابن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير” أنه رأى مصحفا مشرقيا نُسخ سنة 1078 ببلاد العجم -على أكبر الظن- جعل لهذه السورة عنوانا مخالفا لجميع ما هو مألوف في جميع المصاحف، هذا العنوان هو “سورة حبيب النجار” وهو صاحب قصة ((وجَاءَ مِن أقْصَى المدِينة رَجُلٌ يَسْعَى)).

فقد جاء حبيب النجار لإنقاذ قومه من الهلاك والمَحْق والاستئصال فقتلوه ليُصْبِح من المكرَمين في دار النعيم، ويصبحوا من الأخسرين في دار الجحيم.

قصة عروة بن مسعود الثقفي تشبه قصة حبيب النجار، حين قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : “إنَّ مَثََلَهُ في قومه لكَمَثَلِ صاحِبِ يس في قَوْمِهِ)) وقد ذكر ابن اسحاق قصته، فقال :

“قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تَبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفْدُ ثقيف، وكان من حديثهم : أن رسول الله لما انصرف عنهم اتّبَعَ أثَرَهُ عُروةُ بن مسعود الثقفي حتى أدركَهُ قبل أن يصل إلى المدينة، فأسْلم، وسأله أن يَرْجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنَّهُمْ قَاتِلُوكَ)) وعَرَف رسول الله أن فيهم نَخْوة الامتناع الذي كان منهم، فقال عُروة : يا رسول الله ((أنا أحَبُّ إليهم من أبْكَارِهمْ))، وكان فيهم محبّباً مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، رجاء ألا يخالفوه لمنْزِلته فيهم، فلما أشْرف لهم على عِلّيَّةٍ له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رمَوْه بالنّبْل من كل وجه، فأصابه سهْمٌ فقتله. فقيل له : ما ترَى في دَمِك؟؟ قال : ((كرامةً أكْرَمني اللهُ بها، وشهادةً ساقها اللهُ إليّ، فلَيْسَ فيّ إلا ما في الشُّهَداء الذين قُتِلُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبْل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم)) وعندما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه : ((إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه)) السيرة -143/4 دار المعرفة.

قصة أصحاب القرية :

القرية في المصطلح القرآني : تطلق على المدينة الكبيرة التي تكون عاصمة لبلد من البلدان، قال تعالى : ((وإذا أرَدْنَا أنْ نُهْلِك قَرْيَةً أمَرْنَا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيَْها القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً))(سورة الإسراء)، وقال تعالى : ((واسْأَلالقَرْيَةَ التِّي كُنَّا فِيهَا والعِيرَ التي أقبَلْنَا فِيها وإنَّا لَصَادِقُونَ))(سورة يوسف).

والقرية المقصودة هنا على حسب ماذكره المفسرون هي : “انطاكية” وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان، أمّا الرسل الثلاثة فهم -على اختلاف في بعض الأسماء- : بُولس أو شاول، وبَرْنَابا أو يوحنا، وشمعون أو سمعان. وكان ذلك بعد ميلاد عيسى عليه السلام بنحو أربعين سنة.

والمرسَلُ إليهم هم يهود انطاكية باعتبارهم الشعب الإسرائيلي الذي أرسل الله تعالى إليه عيسى بالرِّسالة التي اقتضت الحكمة الالهية أن تكون تكْمِلَةً لشريعة التوراة التي جاء بها موسى عليه وعلى عيسى وجميع الأنبياء والرسل السلام. كما بَيّن ذلك قوله عز وجل : ((ومُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيَّ من التوراة ولأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الذِي حُرِّم عَلَيْكُم))(سورة البقرة) وعلى هذا الاعتبار فيهود انطاكية هم المستهدفون كباقي يهودالشام بالرسالة لتصحيح الانحراف الذي وقع فيه اليهود بعد موسى عليه السلام، ويمكن أن يكون المستهدفون هم سكان انطاكية بصفة عامة يهوداً ويونانيين على اعتبار أن الخطاب الالهي هو مَوَجَّهٌ لجميع المتساكنين بالقرية وإن اختلفوا في الجنس والدّم والنسب.

وكيفما كان الحال فالخطاب القرآني على عادته لم يتعرّض لاسم القرية، ولا لأسماء الرسل، ولا لزمانهم، ولا لجنس المرسَل إليهم، لأن ذلك كله ليس من هدف القصة القرآنية، وإنما هدفها إبراز عنصرين أساسيين هما :

أ- الرحمة الالهية المتمثلة في إرسال الرسل لكل تجمع بشري حَادَ عن الفطرة السليمة بانغماسه في الرذائل والفواحش، واتخاذه معبُودات لا تليق بالإنسان المكرّم.

ب- الكُفران البشري لهذه الرحمة، ومقابلتُها بالعناد المؤدي للهلاك، أو مقابلتُها بالاستجابة الشاكرة المؤدية إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة.

وفي كلا الموقفين عبرةٌ للمومنين في كل زمان ومكان حتى لا يستوحشوا الطريق، أو يصيبهم اليأس والقنوط، وبذلك تكون القصة القرآنية نعم الزاد للغرباء الدّاعين للحق وسط مجانين الدنيا وعُبّاد الهوى الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان.

في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى سنعرف المنطق المتهافت لأهل الكفر والالحاد.

ذ. المفضل فلواتي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>