1) فساد الأوضاع كان يستدعي الإنقاذ:
لَمْ يكن الحنفاء يمثلون شيئا يُمكن أن يغيِّر مجرى التاريخ والأحداث، فقد كان أحْسَنُهم رُشداً، يعمل على إنقاذ نفسه، وذلك شيء طبيعي، لأنهم لا يملكون مَصْدَرَ الهُدى والنور، ولا مصدر المَدَدِ والتوجيه. ولا مَصْدَرَ التشريع والتقويم، ولذلك لم يكن لهم دَوْرٌ يذكر إلا الترويج للنبوة الخاتمة، والرسالة المنقذة، أمَّا أغْلَبُ العرب -نُخْبَةً ودَهْمَاءَ- فقد كان دينهم الرسمي هو الشِّرك بجميع أنواعه.
>كانوا يعتقدون أن الله هو الإلهُ الأعظم، هو خالقُ الأكوان، ولكن فكرهم الجاهلي لا يَسَعُ توحيد الأنبياء في خُلُوصه وصفائه وسُمُوِّهِ، وما كانت أذْهَانُهُمْ البعيدةُ العهد بالرسالة والنبوة تُسيغ أنَّ دُعَاءَ أحَدٍ من الناس يُمْكِن أن يَحْظَى عند الله عز وجل بالقبول مباشرة بِغَيْرِ واسطة وشفاعة، قياساً على الأوضاع البشرية المُلُوكية الفاسدة، حيث لا أحَدَ يستطيع أن يتصِل بالعظماء بدون واسطة. فرسَخَتْ في أذهانهم فكرة الشفاعة حتى تحولَتْ إلى عقيدة قُدْرة الشفعاء على النَّفْع والضرِّ، ثم ترقَّوْا في الشِّرك فاتخذوا من دون الله آلهة، واعتقدوا لَهُم مماثَلَةً ومشاركة في تَدبير الكون، وقدرة على النفع والضر<(1) فكان لابد من بعثة الْمُنْقِذ لتصحيح أوضاع الإنسان الذي هانَتْ عليه نفسه، فأصبح يعيش تحت تأثير أَوْهَامٍ ما أنزل الله بها من سلطان، بل أسْلَمَ زمام نفسه لمن لا يملك له شيئا من دون الله، ولا يستحق أن يملك شيئا من دون الله، سواء كان هذا المعبودُ -من دون الله- حجراً أو قمراً أو إنسانا، أو مَالاً…
ولعَلَّ الوضع البشري الحالي أكثر جاهلية من الجاهلية الاولى، لأن جاهلية القرن الواحد والعشرين أشَدُّ تنظيما، وقوة، وشراسة، وخِداعا، ومراوغة، وإغراءً، وجاذبية، وإعلاماً، ولذلك علاجها يتطلب حُسْنَ التقدير، وحُسْن التخطيط والتدبير، وحُسْن المواجهة والمجابهة، وحسن الاقتداء بالمنهج الاول ، وإلا كان التأثير ضعيفا لا يُسمن ولا يغني من جوع.
2) الشرفاء الأحرار لا يخلو منهم زمان ولا مكان:
لقد أخلص علماء اليهود والنصارى -الذين اتصل بهم زيد- النصيحة له، حيث دَلُّوه على الدين الحق المنتظر الذي ضَلَّ عنه اليهود والنصارى، فأصبحوا يشعرون -ويشعر معهم الناس- بالحيرة التي سادت الدنيا، وغطت بضبابها الكثيف على الأديان الظاهرة، التي أصبحت لا تُشبع تطلعات الأرواح الطاهرة المتشوقة إلى التدين الصحيح.
فهل استجاب اليهود المغضوب عليهم والنصارى الملعونون للدين الحق عندما جاءهم به رسول الحق؟ الواقع يشهد بأنهم حاربوه وقاوموه – إلا من رحم ربك- ومازالوا يقاومونه ويحاربونه على ما كانوا عليه -وما زالوا- من الضلال والانحراف!!
ولَعَلَّ الله يهيئ للإنسان -في زمن العَوْلَمَة الكفرية- قادةً عِظاماً، ودُعَاةً أكفاء، ينيرون الطريق للحيارى من ضحايا العلمانية والمادية فتزحف عَوْلَمَةُ الحق على عولمة الباطل، فالأحرار الباحثون عن الحق كزيد بن عمرو لا يخلومنهم زمان ولا مكان.
3) مزية حَلِّ المشاكل الطارئة بالطرق المرضية :
>في حادثة تجديد بناء الكعبة تجد أن الله تعالى أكرم رسوله بالقدرة الهائلة على حل المشكلات بأقْربِ طريق وأسهله، وذلك ما تراه في حياته كلها، وذلك مَعْلَمٌ من معالم رسالته، فرسالته: إِيصالٌ للحقائق بأقرب طريق، وحَلٌّ للمشكلات بأسْهَلِ أسلوب وأكمله<(2)
فلا ينبغي أن تُغْفَل في التربية والتدريب والترقية والاختيار للمهمات ملاحظةُ هذه المزية، وهذه الموهبة، لأنها تَسُدُّ الكثير من أبواب الشرور والمفاسد.
4) وضوح السلوك خير معين على كسب الثقة الاجتماعية :
لقد وفَّق الله رسوله محمد للحَلِّ الحصيف في قضية وضع الحجر الأسعد في مكانه، حيث رضي القوم جميعاً بهذا الحل، ومن قبله رَضُوا بمحمد الحَكَم، فلماذا كان الرِّضَا التَّامُّ بتحكيمه وتسليم القيادة له في أعْوَصِ مُشْكلة كادَتْ تراق فيها الدماء؟
يظهر أن الرضا المجمع عليه كان سَبَبُه ما عُرف عن محمد من الخُلُق الحسن، والسلوك القويم، طِفْلاً، ومراهِقاً، وشاباً، وكَهْلاً، بحيث لم يجرِّبْ عَلَيْهِ أحَدٌ كذباً، أو خيانة، أو سفاهة. بل كان عبارة عن ضَمِيمَةٍ مختارة من أجمل الأخلاق، وأرضاها للنفس السوية.
إن الطريق لاكتساب ثقة المجتمع ليس سَهْلاً، ولكنه يحتاج -بعد توفيق الله تعالى – إلى التميز بالأخلاق الحسنة المنبعثة من عمق الإخلاص للمبادئ الإصلاحية الرفيعة، وإلى التميُّز بالعلم الرصين، والحكمة المتلألئة، وخصوصاً من علماء الأمة ودعاتها ومصلحيها، فبِقَدْرِ ما يحققون في أنفسهم صِفَاتِ الإِئْتِمَانِ على الإرْثِ النبوي، وربانيَّة الوِجْهة والخِطاب، بقدْرِ ما يبوِّئُهُم الله تعالى مَقامَ الشهادة على الناس، ويبوِّئُهم المجتمع مَقَامَ الإمَامَةِ.
———————–
1- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 38 ومابعدها.
2- الأساس في السنة وفقهها – السيرة 1/175.