3- المنظومة الاقتصادية الاسلامية والمنطلق الأساس
لقد سبق تبيين أن قوّة المنظومة الاقتصادية الاسلامية تكمن بالأساس في كونها منظومة عقيدية ترتكز على عقيدة التوحيد، وهي العقيدة التي تعتبر جوهر ولبّ كل الديانات السماوية. وهذه الحقيقة هي التي تفسّر الهجوم القوي بشتى الأسلحة النظرية والمعرفية على البنيان الأصلي الضامن لقوّة وشمولية المنظومة ألا وهي العقيدة (الدين) : وفي هذا الإطار يجب وضع الدعوة إلى العلمانية أو الفصل بين الدين والعلم وبين الدين والسياسة.
لقد كانت انطلاقة الهجوم باعتبار أن البحث لا يمكنه أن يقوم على الدين أو العقيدة لأنّه بالضرورة سيكون طوباوياً ومثالياً وبعيداً كل البعد عن الواقعية وعن المنهج العلمي. فإذا كان هذا الاعتبار صحيحاً بالنسبة للأديان المحرفة فإنّه لا ينطبق على المنظومة الإسلامية، لأنّها في جوهرها ظلت منظومة تستند على منظور ونهج لم يصله أي انحراف في مصادره الأولى.
فمن المعروف تاريخياً أن الإسلام ظل ولازال يدعو إلى العلم ويحث عليه. والاسلام يحث حثاً على استخدام قواعد البحث العلمي، بل أكثر من ذلك يوفر شروط ضمان توجيه هذا البحث بوضعه الضوابط لتجنيب العقل الوقوع في الخطأ أو الانسياق وراء الأهواء والمنفعة الذاتية سواء المادية منها أو المعرفية. فالإسلام كنهج ومنهج يحرص على استخدام العقل ويدعو الإنسان إلى التأمل العقلي في الكون والملكوت والنفس وصيرورة التاريخ البشري. كما يدعو إلى الكشف عن دوافع الأفعال، ألَمْ يدع العلماء إلى أن الأمور بمقاصدها؟ ألم يحث الإسلام على الصدق واتّباع مقومات الموضوعية العلمية حتى فيما يخص المرء مع نفسه قبل غيره؟..
واعتباراً لما ذكر سنحاول رصد المعالم الثابتة لوجود “منظومة اقتصادية إسلامية”، ولبلوغ هذا الهدف لا مناص من الوقوف على قضية هامّة جدّاً حتى نتجنّب الخلط الذي من شأنه أن يؤدي إلى التشويش على الفهم.
إن مختلف العلوم الانسانية الحالية هي مستقاة من الفكر الوضعي المرتكز أساساً على تحقيق مصالح ذاتية، فردية كانت أم جماعية، وهي تقوم على قواعد وأحكام قيمية. وهنا يكمن خلافها التام مع الإسلام الذي تقوم قواعده وأحكامه، على قوانين الفعل الارادي المنسجم مع حركة الظواهر الطبيعية.
ولنتوقف ملياً عند هذه الحقيقة للمزيد من التوضيح. لقد خلق الله تعالى الكون وخلق الإنسان وأنشأ قوانين الكون وقوانين الإنسان (العلاقات -التصرفات…) في انسجام تام لضمان عدم قيام التناقض والتعارض بين منظومة قوانين الكون (وهي قوانين الحركة اللاإرادية) وقوانين الإنسان (وهي قوانين الحركة الارادية)، لأن مصدر هذه القوانين كلّهاواحد وهو الخالق سبحانه وتعالى، وهذا ما كان وما يجب أن يكون. ومن هنا يستمد الإسلام مختلف قواعده وأحكامه، ومن هنا كذلك يتّضح بجلاء أن الأحكام والأفعال الشخصية ليست هي المنطلق وإنما المنطلق هو التزام الإنسان بقواعد وأحكام الإسلام أو عدم التزامه بها في فعله وحركته الإراديين. وهنا بالذات يكمن الفرق الشاسع بين الإسلام والمذاهب الفلسفية والمذهبية الوضعية.
لنأخذ مثالاً للتوضيح، فهناك ما يسمى بقانون التعادل الكمي -الكيفي بين الحاجة والقيمة وهو قانون تخضع له مختلف الظواهر الطبيعية واللا إرادية، ويتّخذ هذا القانون شكل قاعدة الاعتدال في مجال النشاط الاقتصادي الإسلامي.
فالإسلام، كما هو معلوم، يحث حثّا على قاعدة الاعتدال في الإنفاق واقتناء حاجيات الحياة من مأكل ومشرب وملبس وغيرها، وقال سبحانه في سورة الفرقان : {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً}. وهناك آيات عديدة تشير إلى ذات المعنى، وهذه قاعدة خالية من أي مذهبية وليست فيها أي قيمية، إنّها قاعدة موضوعية تنسجم والتطبيق الإرادي لقانون الاعتدال الكمي-الكيفي. ويمكن تطبيق نفس الشيء على النهي عن الخمر مثلاً وغيره من الخبائث. إذن فما ينبغي أن يلتزم به الإنسان إرادياً هو ما ينبغي أن يكون، وهذا يكون مطابقاً مع ما يجب أن يكون اعتباراً لقوانين الحركة اللا إرادية. وفي حالة عدم التزام الإنسان إرادياً فإن ما يقوم به لا يطابق ما كان وما يجب أن يكون حسب قوانين الحركة اللا إرادية وهنا بالضبط تكمن أسباب المحن التي تعرفها البشرية في عصرنا الحالي.
وإذا فهمنا هذا التباين بين منطلقات المنظومة الاسلامية ومنطلقات المنطومة الوضعية فإنّنا سنفهم أن المنظومة الإسلامية تخلص الباحث والعالم من المنطلقات والدوافع الذاتية والمنفعية التي هي أساساً نقطة الانطلاق بالنسبة للمنظومات الوضعية.
إدريس ولد القابلة