افتتاحية – أولوية الاختيار الدعوي في الإصلاح


إن هذا الدين لم يقم إلا على ثلاث ركائز متلاحمة وأصول مُحْكَمة: إيمان وعمل ودعوة إلى الله تعالى. إن هذه الأمة لم تنعم بالعز والتمكين إلا بالارتباط المتين بهذه الأصول، ولن تقوم من جديد إلا بإقامتها والاستقامة عليها:
< فالإيمان هو عمود الدين ومقصد بعثة الأنبياء والمرسلين، وعليه المدار في صلاح الناس أجمعين، ولا قوة لدين الإسلام إلا بقوة الإيمان والعمل، ولا وجود للإيمان والعمل بغير عمل دؤوب للدعاة الحكماء المخلصين. وما انهالت المصائب على الأمة إلا يوم فشا فيها الجهل بحقيقة الدين، وضعف الإيمان، لذلك فلا عودة صحيحة للأمة إلا بإقامة هذا الركن وإقامة ما يلزمه من المقومات. < أما العمل الصالح، فهو الغاية التي من أجلها أنزل الله تعالى دينه وبعث رسله، فبصلاح العمل يصلح الحال والمآل، ويطيب المعاش والمعاد. والعمل الصالح مقرون بالعلم الصحيح بالله تعالى وبدينه، وثمرة طيبة له، والأعمال على وزان الإيمان. وقد دب في الأمة الفساد في أعمالها لما دب الخلل في إيمانها أولا، ولما فارق العملُ الإيمانَ ثانيا؛ فلا إيمان بلا عمل ولا عمل بدون إيمان. وكم تحتاج الأمة اليوم إلى الإحسان في الأعمال، مع الله ذي العزة والجلال، ومع الخلْق في كل مجال. < أما الدعوة إلى دين الله تعالى بعلم وحلم وحكمة فهي وظيفة رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فبها يلج الدين القلوب، وبها تدين الأمة للخالق علام الغيوب، فلا حياة لدين من غير الدعوة إليه وتعليمه والإعلام به، وما انتشر نور الإسلام وعلا صيته وقويت شوكته إلا يوم جعلت الأمة الدعوة إلى الله تعالى منهج حياتها والشغل الشاغل لأبنائها، ولما تخلَّت تدلَّت، ودب إليها الخلل، وفسدت الأحوال والأعمال، وانحسر إشعاعها، وقَصُر ذراعها. فالدعوة إلى الله تعالى شرط وجود هذه الأمة، وعلة بقائها، وعنوان صلاحها واستخلافها. وبناء عليه فالدعوة إلى الله  يجب أن تشتغل في جبهات ثلاث: - جبهة الدعوة إلى تصحيح ما فسد من تدين الناس وتحصينه وتحسينه، لأنه هو التخلق الأوَّلِي والشرط الضروري للدين في النفوس. - وجبهة الدعوة إلى تصحيح الأعمال وإصلاح النفوس، إذ العمل بمثابة التحقق في العيان لما تخلق في الوجدان من بذور الإيمان، والعمل هو صاحب الأثر في الواقع نفعا وضرا. - ثم جبهة الدعوة والبلاغ لأنه إذا كان العمل هو حركة الإيمان في الواقع، فإن الدعوة هي المحرك الذي لا تكون حركة الإيمان والعمل إلا به، بل أثر الإيمان والعمل قوة وضعفا مرتبط بالدعوة إلى الله تعالى طردا وعكسا. وعليه فلا أمن لهذه الأمة إلا يوم يصير كل أبنائها دعاة عاملين، حاملين لواء الخير كل الخير للناس كل الناس، مبشرين بكل نعمة ودافعين كل شر ونقمة. وإن الأمة ستكون بخير يوم تستأنف مشروعها الدعوي لربط الناس بالله وحده جل وعلا وبكتابه وبما صح من السنة بعيدا عن كل راية ملونة أو طائفة معينة، ولن يفيد هذا المشروع حق الإفادة إلا يوم ينخرط أبناؤه بإخلاص -كل من موقعه ومستواه وفي حدود مسؤولياته- في الإصلاح والتربية على هدى القرآن وسنة النبي العدنان، والإشعاع بما فيهما من خير وعدل ورحمة. كما أن الأمة لن تتعافى من داخلها من أمراض التدين المنحرف، ولن تسلم من آفات الفتن المشتعلة إلا بجعلها الاختيار الدعوي أُسَّ الاختيارات، فبه وحده يصلح كل شيء بعده، وتندفع الويلات، وتُجلب المكرمات والخيرات، وهذا الاختيار هو الذي يُحتاج إلى تعزيزه بكل ما هو جدير به وخليق؛ إذ هو الطريق الأقرب والأنسب لكل إصلاح متين وعميق. وإن الأمة لن تخرج من ضيق الانحسار إلى آفاق الانتشار، ومن ذل الهزيمة والانكسار إلى عز التمكين والاستخلاف والشهادة على الأمم والأمصار إلا باعتماد خطاب دعوي صحيح الأصول قوي الأثر في النفوس والعقول يضيء نوره كل القلوب في كل البلدان والشعوب. وكم أحسنت الصنع كثير من البلدان الإسلامية اليوم عندما فتحت أبوابها لاستقبال المسلمين وغير المسلمين من المهاجرين والمقهورين والمحرومين، وعندما أرسلت دعاتها لنشر الدين وتكثير سواد المسلمين، وإنه لعملٌ جليلٌ أثرُه طيِّبٌ ثمرُه، يُثنى فيه على المحمود من الموجود، ويُعمل بإخلاص وتضافر المساعي والجهود لتجويد المحصول والتشوف لتحقيق المأمول. ألا إن حمل همِّ الدعوة ميثاق ثقيل وعمل جليل، وواجب لا يسقط على كل أبناء الأمة في كل عصر وجيل. وكلما سعت الأمة إليه وحرصت عليه ولم تقدم غيره عليه، سلمت من شرور النوازل والوقائع، وارتادت أعلى المراتب والمواقع، وكلما دعت إليه بما حسن من المواعظ والحكمة، انتفعت ونفعت بكل نعمة ورحمة؛ {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>