لـغـة الـوحـي اخـتـيـار إلـهـي


قال تعالى:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (إبراهيم: 5).
وهذا تكريم للقوم، وتشريف للغتهم، وتيسير على المبلغين منهم، ورحمة شاملة للمنزل عليهم وللمبلغ إليهم.
وقال سبحانه:
- إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (يوسف: 2).
- إنا أنزلناه قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا (فصلت: 2-3).
- (وعلم آدم الأسماء كلها) (البقرة: 30).
فاختيار الله للغة الوحي سنته الجارية في الأمم منذ أول وحي إلى آخر وحي، فلا بدع أن كانت لغة آخر وحي إلهي إلى البشرية هي اللغة العربية.
وقد نقلت هذه اللغة إلى الدنيا صورا علمية وأدبية من الحضارات القديمة بالجزيرة العربية، كعاد وثمود، وسبأ وملك سليمان، وغنيت بالخيال الوصفي في مظاهر السلم والحرب، واستغنى العرب بلغتهم عن لغات الفراعنة والفرس والحبشة المجاورين، وعن لغات الهند والصين واليونان وغيرهم، وكانت تلك اللغات لغات حضارات، لكنها كانت مشحونة بلوثاث الوثنية، والتفسيرات الفلسفية البشرية، والتصورات الأسطورية.
وحين شاء العليم القدير أن ينزل خاتمة الوحي الرسالة المحمدية، اختارها من بين لغات أهل الأرض؛ لغة العرب، لفضائل فيها، ومزايا وخصائص علم هو سبحانه أنها هي وحدها القادرة على استيعاب معاني الرسالة الخاتمة. قال الإمام الشاطبي: ولما بعث الرسول للناس كافة، فإن الله جعل كافة الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب (الاعتصام، 2/294).
وأنا لا أتحدث هنا عن الجانب التاريخي والعلمي والفني للغة العربية، وإنما أحاول استعراض بعض المحاسن التي تمتاز بها هذه اللغة عن غيرها. و«المسلمون» عن لغتهم اليوم غافلون، أو لها محاربون.
ومن قارن بين مخارج حروف اللغة العربية وتقسيمها بين الجوف والحلق واللسان والشفتين، لم يجد إطلاقا لغة غير العربية تضاهيها في هذا التقسيم. وعلماء الصوتيات يدركون أكثر من غيرهم أهمية هذه المخارج، وهذا التقسيم، في كون هذه اللغة تحوز أعلى مراتب الفصاحة والوضوح والجمال، -قال الجزري في النشر: وميزوا بين الحروف بالصفات مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم (1/53)-. وفي نظم مفرداتها تتفاوت درجات البيان والبلاغة بحسب التمكن من صناعة النظم والنثر.
وباختيار اللغة العربية وعاء لمضامين الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، صارت العربية لغة القيادة والسيادة والحضارة في كل مجالات الحياة.
ومن هنالك أقبل المسلمون من غير العرب على تحصيل لغة الوحي بشغف وحب؛ لأنها لغة الوحي الدولية، وقد برعوا فيها وتفننوا حتى ضاهوا العرب في فنونها، فتوحد المسلمون عربا وعجما وإيمانا وفكرا، وسلوكا ولسانا وتشريعا ونظاما، بفضل لغة الوحي لغة التوحيد.
وخير اللغات -يقول محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله- ما كانت لسانا مبينا للمدنية، تسهل على الناس سبيلها وتمهد لهم مقيلها. (آثار محمد البشير الإبراهيمي: 1/374، جمع وتقديم نجله أحمد طالب الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط.1، 2011م).
ومن خصوم الإسلام من شهد «أن معظم الأبحاث العالمية الممتازة خلال حوالي أربعة قرون، إنما تمت بلغة العلم الكبرى حينئذ وهي اللغة العربية» (مناهج البحث عند مفكري الإسلام: د. علي سامي النشار، ص. 260، دار المعارف، ط.4، 1978، مصر)، والحق ما شهدت به الأعداء.
أما الغرب المتعصب المعادي، فطبيعته الطعن وطمس آثار الرجال، حتى لا تنفضح إزاءها مهازل الأنذال، قال عبد الكريم غلاب: لا يجوز مطلقا فرض لغة أو لغات على دولة أو مجموعة دول باعتبار اللغة المفروضة لغة الحياة والعلوم والحضارة فلكل حضارة لغتها وقوميتها، ولذلك فالعالم الجديد يجب أن يقوم على أساس التعددية الحضارية واللغوية والنظم والسياسة العادلة . (في الفكر السياسي: ص 38).
وكلما وسعت اللغة العربية الحضارات المتعددة نقلا وتصحيحا وتقويما وتوسيعا، واستدراكا وإضافة، وتسهيلا للنقل عنها، تغلبت كذلك على مشاكل الترجمة وعيوبها بسبب القصد والجهل والخطأ.
ومن العجب أن الحضارة الراهنة تساندت في تكوينها وتشكيلها عدة لغات مختلفة الأصول، ولم تستطع أن تقوم بها لغة واحدة، على حين أن اللغة العربية قامت وحدها ببناء حضارة شامخة البنيان، ولم تستعر من اللغات الأخرى إلا قليلا من المفردات (آثار محمد البشير الإبراهيمي: 1/374).
وإذا كان بقاء الحضارة وانتشارها يتوقف على ما في اللغة من قوة وحياة واتساع، فاللغة من الحضارة جزء لا كالأجزاء، كاللسان من البدن عضو لا كالأعضاء.
وإذا كانت أسس الحضارة البشرية هي الوجدان والعدل والجهود البشرية واللغة فإن أسس الحضارة الإسلامية هي التوحيد، والتشريع العادل، واللغة العربية، والفضائل والكمالات الأخلاقية (آثار محمد البشير الإبراهيمي: 1/375).
ولما نقل المسلمون علوم وثقافات العرب والفرس والهند والصين ومصر واليونان والرومان إلى لغة القرآن، وجدوا فيها خير معين على ذلك، وهذا من فضل العربية على العلم والمدنية.
ولو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن متسعة الآفاق غنية بالمفردات والتراكيب، لما استطاع الأسلاف أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب الفرس والهند، ولألزمتهم الحاجةُ إلى تلك العلوم تعلمَ تلك اللغات، ولو فعلوا لأصبحوا عربا بعقول فارسية وأدمغة يونانية، ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمته.
ولو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون.
لقد قامت اللغة العربية في أقل من نصف قرن بترجمة علوم تلك الأمم ونظمها الاجتماعية والأدبية والرياضيات بجميع أنواعها، والطب والهندسة والاجتماع والفلسفة، وهذه هي أهم العلوم التي قامت وتقوم عليها الحضارات العقلية في الأمم الغابرة والحاضرة. وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لا يزال يأخذه الأخير عن الأول وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوة فيك وإما أن تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك، وقد تفطن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم إليهم ولم ينتقلوا إليه.
وقد حفظت اللغة العربية بأمانة هذا الجزء الضروري من الضياع، بانتشاله من أيدي الغوائل، ونقله إلى الأواخر عن الأوائل، وبذلك طوقت العالم بمنة لا يقوم بها الشكر، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير.
واللغة العربية لم تخدم مدنية خاصة، أو علما خاصا بأمة، وإنما خدمت المدنية الإنسانية والعلم المشاع بين الناس، وبذلك كان لها الفضل على الأمم عامة، وعلى المسلمين خاصة، فمن اطلع على ما تركته اللغة العربية من كنوز وذخائر في مختلف العلوم الدنيوية والدينية علم مقدار هذه اللغة وفضلها على البشرية (آثار محمد البشير الإبراهيمي: 1/376).
إن اللغة العربية منذ دخلت في ركاب الإسلام على الأمم التي أظلها ظل الإسلام، كانت سببا في تقارب أفكارهم وتشابه عقلياتهم، وتمازج أذواقهم، وتوحيد مشاربهم.
وإن هذا لمن المناهج السديدة في توحيد الأمم المختلفة الأجناس، ولولا العربية لاختلفت الأمم الإسلامية في فهم حقائق الدين باختلاف العقليات الجنسية.
وإن الأمم التي دخلت في الإسلام متفاوتة الدرجات في الانفعالات النفسية، وأنماط التفكير، متفاوتة في الإدراك والذكاء، متفاوتة في القابلية والاستعداد، متفاوتة في التخيل والتصور.
ولكن اللغة العربية فتحت على تلك الأمم آفاقا جديدة في كل ذلك، ما كانت لتعرفها لولا اللغة العربية التي دفعتها بما فيها من قوة وبما لها من سلطان إلى التفكير والتعقل على منهج متقارب، وحفزت الأفكار الخامدة إلى التحرك، وزادت الأفكار المتحركة قوة على قوة.
وإذا كان الأجنبي عن هذه اللغة يقدرها ويقدر لها جميلها، فيحيي من آثارها ما استطاع ويحث قومه على تعلمها والاستفادة من ذخائرها وحكومته من ورائه تجمع له مئات الآلاف من أسفارها القيمة. فماذا صنعنا نحن ونحن أبناؤها حقيقة.
ومن حق بل من واجب كل مخلص للغة العربية أن يتساءل: ما سر انطواء هذه اللغة وانكماشها اليوم عن كثير من جوانب الحياة عند المسلمين عربا وعجما؟، بعدما قادت الفكر العالمي شرقا وغربا بكفاءة فذة، واستقلال تام، ولم تعي ولم تضعف أكثر من ثلاثة عشر قرنا !؟
لعل الجواب القريب من الصواب هو أن اللغة العربية لم تعرف سيادة ولا قيادة حينما كانت لغة العرب وكفى، وإنما الذي أكسبها الشرف والريادة والهيمنة على الفكر العالمي هو الوحي الذي نزل بها، ونطق بلسانها، ونظم شؤون الناس بأحكامه المسوغة في عباراتها وأساليبها، فحيثما ارتفعت راية القرآن، وأضاءت مصابيح الوحي، وخضع الناس لسلطان الإسلام، سادت العربية وقادت. وكلما انحسر ظل القرآن وانكمشت روح الوحي وطويت الشريعة، وزحزح سلطان الإسلام؛ فرّغت اللغة العربية من أسرار انتصارها وانتشارها وهيمنتها على غيرها من اللغات، ولم تعد حتى في مستوى لغة العرب بالأمس، فجل عرب اليوم مشكوك في نسبهم إلى عرب الأمس، وعلى عرب اليوم ومسلميه أن يثبتوا نسبهم إلى عروبة الأمس وانتمائهم إلى إسلام خير القرون.
فبالإضافة إلى غارات الخصوم منذ بدايات النهضة الغربية وتآزر الحاقدين منهم في فصول متوالية ومتلونة من الحروب الصليبية المدروسة، هناك تخادل عربي وغدر ومكر وبيع في عرض الإسلام وشرف العربية، وتبعية واقتداء ومسخ وطمس، وفي مقابل نشاط السبق العلمي عند الغرب، وسعة حرية البحث والإبداع والإنفاق يوجد عند العرب انعجاف العمل في المجال العلمي، وخنق الحريات، وإرهاب الفكر، ووأد الإبداع.
ونحن إذ نتعصب لهذه اللغة الموؤودة إنما نتعصب للغة الوحي والحرية والعدل والجمال والسلام، لا للغة الرعونة والبطن والفرج والركوع للأجنبي.
لقد أصبحت لغة القرآن في أحوال غربة ووأد، وسجن وطرد وصار جل حكام المسلمين يترضون الغرب بمسخ لغة الوحي.
ولكن الأحرار وإن أعدمت أبدانهم أو سجنت فإن عشقهم للغة القرآن، وعمق حبهم وإخلاصهم للغة العز والسيادة، لا تعدم ولا تحبس؛ لأنها الأمانة التي تنتقل عن طريق قلوب الأسلاف الأحرار إلى صدور الخلف الأبرار: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله (الأحزاب: 39).
إن هؤلاء ومن أحبهم وأحب ما أحبوا، هم ضمانات للنبش عن الموؤود، وعلاج المفؤود، وإحياء الأمل في النصر الموعود.
قال محمد البشير الإبراهيمي: أحببت من الأمة العربية ما أحب الله منها يوم أنزل وحيه الكامل بلسانها (آثار محمد البشير الإبراهيمي: 4/225).
ومن حق من أحب شيئا أن يتعرف على محاسنه ويتغنى به:
نغار عن أحسابنا أن تمتهن
والحر عن مجد الجدود مؤتمن
ولغة العرب لسان ممتهن
إن لم يذد أبناؤه عنه فمن؟
(آثار محمد البشير الإبراهيمي:3/485)

أ. د. محمد أبياط 
—————-
محاضرة نظمت من طرف الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية – فرع فاس، بتاريخ: 21/06/2016

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>