الاستيعاب والسعة في المنهجية الإسلامية


عالمية الإسلام عنوان سعته:
لم يضق الإسلام يوما من البشر بصنف ولا بجنس ولا بلون، فقد ورد النداء القرآني الجامع بصيغة “يا أيها الناس” عشرين مرة تقريبا في الكتاب الكريم، وورد النداء بـ “يا بني آدم” خمس مرات، وبصيغة “يا أيها الإنسان” مرتين، ثم جاءت الصيغ الخاصة بالمؤمنين في سياقات شتى من التنزيل الحكيم.
وفي توجيه الخطاب لعموم الناس والإنسان، ولجميع بني آدم إشارة بالغة إلى سعة الإسلام وشمول خطابه، وعدم إنكار لطائفة أو جماعة أو جنس مهما كان.
ثم جاءت نصوص شريفة تؤكد أن القانون الرباني القدري في الكون يسمح بوجود المختلفين، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود: 118-119). و لهذا لا يجوز أن يكره أحد على اعتقاد ما أياً كان، لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 256)، وعلى كل مكلف أن يتحمل مآل قراره الذي اتخذه حيال الكفر والإيمان: إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (الزمر: 41).
فرق بين واقع الدنيا وحال الآخرة:
فالمسلمون يقبلون الآخر من كل ملة ونحلة مهما كان قربها أو بعدها من الإسلام، ما لم يحاربهم أو يعتدي عليهم، لإدراكهم أن الواجب الحتمي أن يتعايش المختلفون في ظل إخاء إنساني عام أصله البعيد النفس الواحدة “آدم” ، أما الآخرة فلها شأن آخر فالحكم فيها لخالق الناس صاحب الحق الأعلى على خلقه في عبادته والإيمان به فهناك يكون الجزاء، ولا يجوز للمؤمنين أن يعاملوا غيرهم في الدنيا معاملة الرب لهم في الآخرة.
آفاق الاستيعاب والسعة في المنهجية الإسلامية:
الأفق الأول: استيعاب كل مخالف في العقيدة:
قبل الإسلام كل مخالف له في العقيدة، وقد تجلى ذلك مبكرا في تلك الوثيقة الخالدة التي أبرمها الرسول بين المسلمين وبين اليهود، والتي بموجبها تأسس أول ميثاق للمواطنة والتعايش بين مهاجرين وأنصار، ويهود ومشركين بل حتى المنافقين، فظهر من خلال التطبيق النبوي أن الإسلام بريء من تهمة إنكار الآخرين؛ لأن الآخر في نظره من قدر الله تعالى الغالب.
وقد أنزل الله تعالى في اليهود والنصارى ما يظهر إنكار كل طرف منهما للآخر، فقال سبحانه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُون (البقرة: 113). ثم تكاثرت الآيات في بيان أن كل الأمم غير المسلمة تنكر وجود مخالفيها، فلا أحد يعترف بالآخر، لكن القرآن الكريم جاء ليؤسس منهاجا لقبول الآخر والتعايش معه، ليعمر الجميع الكون وفق قانون التدافع وليس قانون الصراع. وفارق كبير بين المفهومين، فالأول تعميري بناء، والآخر من الصرع والإهلاك، كما قال تعالى فترى القوم فيها صرعى .
لقد استوعب الإسلام عمليا وجود غير المؤمنين في تاريخه الطويل، فاستوعبت ممالكه اليهود والنصارى وسائر الملل الأرضية، وآمن المسلمون أن من سنة الله الكونية حصول التعددية والاختلاف والتمايز في الأديان والألوان واللغات، وأن الأحدية والواحدية ليست إلا لله تعالى فقط.
الأفق الثاني: استيعاب كل مخالف في المذهب والرأي في الداخل الإسلامي.
واذا وجهنا النظر إلى الداخل الإسلامي وجدنا المنهجية الإسلامية تؤكد على: ضرورة وجود ثابت ومتغير، أما الثابت وهو الجامع لعموم الأمة فقد اتفقت عليه الأمة ولم تختلف فيه، سواء في ذلك ثوابت العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات، وقد مثل ذلك القاسم المشترك المحقق لوحدة الأمة على اتساعها، وأما المتغير فنشأ لفهمه وتوجيهه البحث الفقهي ممثلا المذاهب الفقهية التي تجاوزت الأربعة إلى الأربعة عشر، و البحث الكلامي ومثلته مدارس شتى ما بين أشعرية وماتريدية، ومعتزلة وخوارج وغيرهم من الفرق والاتجاهات الفكرية المختلفة.
آفاق أخرى:
وامتدادا لهذه الآفاق في السعة والاستيعاب داخل الساحة الإسلامية اتسع الإسلام لأنواع أخرى من الاختلافات، سواء منها ما كان عرقيا، أو قوميا، أو لغويا، وفتح آفاق التواصل من خلال حوار بناء بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وبحل نكاح نساء، وأكل ذبائحهم، ولم يمنع المشي في جنائزهم وعيادة مرضاهم، وتقديم الصدقة إلى فقيرهم، وأمر بالإحسان إلى الإنسان كل الإنسان “وقولوا للناس حسنا”، وجعل السلم لا الحرب أصلا في العلاقة بين المسلمين وغيرهم، فلا حرب إلى بموجب ولسبب.
هل استوعب المسلمون بعضهم بعضا؟
ومرادي بعد ذكر ما سبق –على طوله- التمهيد لمسألة هي: أن أمتنا الإسلامية في حاجة إلى حوار إسلامي إسلامي، بعد بروز روح التنافر الواضحة بين أبنائها، بسبب الشعارات والمصطلحات وتعدد دوائر الانتماء، ونسي الجميع أن المجتمع الإسلامي حوى في تركيبته الفكرية السلفي والصوفي، وأهل الرأي وأهل الأثر، والظاهريين وأهل التعليل، والزهاد والمجاهدين، بل الطائعين والعصاة، قال الله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (فاطر: 32) وصدق النووي في تعليقه على كلام الأئمة أحمد والقاضي عياض في شرح حديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق…» الحديث حيث قال رحمه الله تعالى: “ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض”. (شرح النووي على مسلم 13/67).

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>