الهوى مضاد للشريعة


أمر الله نبيه داود باتباع الحق ونبذ الهوى حيث قال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه (ص: 26) وعلل الله  هذا النهي بما يترتب عنه من مفاسد.
إن الإشكال الرئيسي الذي أود الإجابة عنه هنا: كيف يضاد الهوى الشريعة؟ ويتفرع عن هذا الإشكال أسئلة فرعية. ما معنى الهوى؟ وما هو الفعل الكفيل بأن يدفعه؟ وما هي الآثار المترتبة عن اتباعه؟ وما هي الآثار الناجمة عن دفعه أيضا؟
لقدعرّف الهوى بأنه: ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع. فهو إذن ميل إلى المشتهيات طبعا. وهذا فيلحق الخلائق أجمعين. أماأفعال الأنبياء صلوات الله عليهم كأقوالهم فهي حق، لأنهم لا ينطقون عن الهوى، كذلك لا يفعلون بمقتضى الهوى. وبهذا فارق الأنبياء عليهم السلام باقي الخلائق. وتحقيق هذا قوله تعالى في حق نبينا محمد : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (سورة النجم: 3).
ولقد قرر الإمام الشاطبي أن مراسم الشريعة مضادة للهوى من كل وجه. وهو مضاد للحق أيضا. وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويف الرأي, وإسعاف الهوى، فيخالف ذلك, ويلتمس أن لا يزال هواه مُسَوَفًّا ورأيه مسعفًا.
ويزاد الهوى خطورة وتعقيدا إذا صاحبه طول الأمل، لأن اجتماع هذين الداءين القلبيين ينجم عنه أن صاحب الهوى عندما يحصل له طول الأمل فإنه يتمادى في اتباع هواه حتى يتمكن منه، ويعيش على ذلك الأمل ويسير وفق ذلك الهوى حتى يأتيه الموت بغتة. وقد أثر عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قوله: “إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتين: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل”.
وقد تكرر في القرآن الكريم ذم اتباع الهوى والنهى عنه، وتعليله بأنه يصد متبعه عن الحق والعدل في زهاء ثلاثين آية. قال الله : فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص: 50).
قسم الله في هذه الآية الناس إلى مستجيب لله وللرسول، وهم الذين يمكن أن نسميهم أبناء الآخرة كما سماهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه سالفا، وسبب هذه التسمية أن هذا الصنف عاش على المنهج الذي ارتضاه الله ورسوله ، فهو بذلك يجاهد هواه، كي تستقر نفسه على هذا المنهج. والثاني هو المتبع لهواه بغير علم، وهم أبناء الدنيا الذين عاشوا وفق أهوائهم ولم يكبدوا أنفسهم عناء مجاهدته، لأن همهم أن يعيشوا ويتمتعوا بالشهوات والملذات وعليه فكل ما لم يأمربه الله تعالى ورسوله فهو عين الهوى، وبرهان ذلك واضح، فإن العقل عندما يتلمس الحق بعيدا عن الهوى فإنه لا محالة سيصل، ولذلك وجدنا كثيرا من المستشرقين منصفين، درسوا الحضارة الإسلامية والتاريخ العربي دراسة علمية عميقة بعيدة عن الهوى والتعصب، وأنصفوا العرب والمسلمين، وعززوا آراءهم بالأدلة الحاسمة والبراهين القاطعة معتمدين على الآثار الإسلامية الباقية والتراث العربي الخالد.
أما أولئك الذين استسلموا للهوى فلا عبرة لادّعاءاتهم، ولا قيمة لافتراءاتهم، لأنهم يصدرون عن حقد وضغينة ويخضعون لنوازع الهوى لا لحقائق التاريخ. وبهذا المعنى يمكن أن ننقل عن الإمام الشاطبي في هذا السياق الخلاصة التي توصل إليها وهي: ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى.
ولهذا المقصد، أي الوصول إلى الحق عند الانسلاخ من الهوى دعا القرآن الكريم في كثير من المناسبات إلى مجاهدة الهوى، ومجاهدته حسب الإمام العز بن عبد السلام من العبادات التي خص بها الله البشر دون الملائكة. لأن الملائكة لا يعصون الله، بل يفعلون ما يؤمرون كما قال الله تعالى عنهم. لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم: 6) أما الإنسان فهو معرض للهوى من جهتين: من قبل النفس لاسيما عندما تكون أمَّارة بالسوء، ومن قبل الشيطان كذلك، ولهذا الأمر وجدنا مخالفة الهوى شاقة على صاحبها مطلقا، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق. لكن الثمرة التي يجنيها الإنسان من وراء تلك المجاهدة سعادة لا تنفذ، لأن مصدر السعادة كلها حسب الإمام الشاطبي في اتباع الشريعة في كل ورد وصدر، ونبذ الهوى فيما يخالفها. قال الله تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (طه: 123)، أي فلا يضل في الدنيا عن الصواب ولا يشقى في الآخرة بالعذاب.
ومن رحمته بعباده في هذه القضية أنه لما علم سبحانه أن منهم الجائر المسرف والمقسط المنصف والقوي الضعيف أمر بنصب الخلفاء والقضاة والولاة ليدفعوا الهوى عن الضعيف والجائر المسرف عن العادل المنصف وليحفظوا الحقوق على العابثين والعاجزين ويتصرفوا على الأيتام والمجانين فيحصل الولاة والقضاة والأئمة على أجور الآخرة ومصالحها وتحصيل المحكوم له على المصالح العاجلة وتخليص المحكوم من عهدة الخطأ والظلم فإن ذلك نصرة للظالمين والمظلومين.
وبناء على ما سبق ذكره فإن الهوى من أمراض القلوب يستطيع أن يجر صاحبه إلى الابتعاد عن الحق، فلا يستطيع بذلك أن يميز بين الحق والباطل، بل ربما عدَّ الحق باطلا والباطل حقا.

الباحث: خالد حدوي
———–
ملحوظة:
- نظرا لضيق المساحة، فقد حذفت إحالات المقال.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>