نعمة نزول الغيث ووجوب شكرها


الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ….
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فتقوى الله هي طريقُ النجاة والسلامة وسبيل الفوز والكرامة، :{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيًّا (مريم: 72).
أيها المسلمون: إننا نتقلب في هذه الأيام في نعم من الله زاخرة وخيرات عامرة، سماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضرّ، فتح الله تبارك وتعالى لنا برحمته أبواب السماء، فعمّ بخيره الأرض، وانتفع العباد.
إنه لا يخفى على أحد ما حصل من الضرر بتأخر نزول الغيث في بداية هذا العام، مما أدى إلى ذبول الثمار، وتضرر الكثير من الماشية، وتعطل الكثير من الفلاحين والزراع عن الحرث والزراعة، هذا مع جفاف قلوب الكثير من الناس من الإيمان بالله تعالى والثقة به، حتى كاد اليأس يعصف بالكثير من الناس، واليأس يصيب قلوبهم لما رأوا في مزارعهم وديارهم وما لحق بماشيتهم وممتلكاتهم، فإذا بالرحمان الرحيم سبحانه ينزل رحمته، ويمن علينا بالغيث من خزائن ملكه فانهمرت السماء، وارتوت الأرض، ولهجت قلوب العباد وألسنتهم بالحمد والثناء على الله ذي الجلال والإكرام بما هو أهله، فلا إله إلا الله، ما أعظم جوُدَهُ! وما أكرم عطاءَه، يقول غياث المستغيثين سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (الشورى: 28).
عباد الله: إن إنزال الغيث نعمة من أعظم النعم وأجلها، امتن بها سبحانه على عباده، وأشاد بها في كتابه، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 21 – 22).
أيها المسلمون: إن مما يدل على عظم نعمة الغيث تلك الأوصاف التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فأحيانًا يصف الماء بالبركة، وأحيانًا يصفه بالطهر، وأحيانًا بأنه سبب الحياة، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة، يقول سبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا (ق: 9)، ويقول سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (الفرقان: 48)، ويقول سبحانه : وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُون (النحل: 65).
ولما كان كثير من الناس ينظر إلى نعمة الغيث نظر بصر مجرد فقد غفلوا عن أشياء كثيرة، وفاتهم غيث القلوب، وهو النظر إلى تلك النعمة بنظر البصيرة والاعتبار بهذه الآية العظيمة؛ ففي هذا الغيث مواطن للعظات وآيات للتذكر والاعتبار، ومن أبرزها أنه دليل باهر وبيانٌ قاهر على قدرة الله وعظيم أمره وجليل سلطانه، لو اجتمع الإنس والجن والملائكة وأرادوا إنزال قطرة غيث واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لكن الله تعالى إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون . فسبحان مَنْ أمرُه بين الكاف والنون. حيث ينشئ المولى سبحانه السحاب فتتراكم وتتجمع على أشكال مختلفة، ثم تأتي الرياح بأمره فتسوقها بأمر الله تعالى إلى بلد محدد دون بلد آخر، وإلى مكان محدد دون مكان آخر، فينزل المطر بقدر معلوم وفي أوقات معلومة بتقدير العزيز العليم، روي عن ابن مسعود وغيره أنه قال: “ليس عام أكثر مطرًا من عام، ولكن الله يقسمه كيف يشاء”، فيمطر قوما، ويحرم آخرين، وربما كان المطر في البحار والقفار، وهذا معنى قوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ الشورى: 27 .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن نزول المطر: “فيرش السحاب على الأرض رشًا، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدةٌ في الطريق الذي رُسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرةً قطرةً، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداهُ إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرةً واحدةً أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه”، ثم قال رحمه الله: “فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقًا للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني في الأرض الفلانية بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش”، فتبارك الله أحسن الخالقين ورب العالمين.
عباد الله: ومن الآيات والعبر في نزول المطر أنه دليل واضح -أيضا- على قدرته سبحانه على إحياء الموتى وإثبات البعث والنشور، فالذي يحيي الأرض بعد موتها بالمطر قادر على إحياء الموتى بعد مفارقتهم للحياة، يقول ربنا تبارك وتعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (فصلت: 39) ويقول سبحانه : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (فاطر: 9).
وإن هذا الغيث الذي أنزله الله  علينا هو محض فضل من الله تعالى ورحمة، فكلُنا يعلمُ أن بلادنا عانت من الجفاف في بداية هذه السنة، وأنها تعتمد بعد الله جل وعلا في كثير من شؤونها على مياه الآبار والسدود والأنهار، فعلينا أن نقوم بشكره سبحانه على نعمته، وأن نستعين بها على طاعته، فإن من قام بشكر الله زاده الله تعالى، ومن كفر بنعمة الله حرمه الله، قال الله تعالى : وإذ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد (إبراهيم: 7).
إن إنزال المطر -عباد الله- ليس بالتأكيد أن يكون دليل رضًا من الله عن خلقه، فها هي دول ليست على الإيمان والإسلام ينزل عليها المطر صباح مساء وعلى مدار العام، فالمطر قد ينزل إنعامًا، وقد ينزل استدراجًا، وقد يكون رحمة، وقد يكون عذابًا. ونسأله أن يكون بنا رحيما. ولقد أهلك الله العزيز الجبار بهذا المطر أقوامًا تمردوا على شرعه وتنكروا لهديه، قال سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (القمر: 9-16).
أيها المسلمون: من كفران النعم اعتقاد نزولها بسبب من دون الله تعالى أو تسخيرها في معصية الله تعالى، حيث يخرج البعض من الناس بعد نزول المطر والثلوج إلى بعض المدن القريبة وإلى الجبال والمنتزهات للقيام بالرحلات، مصطحبين منكراتهم ومعاصيهم من أنواع اللهو المحرم، يعصون الله في أرضه، ويستمتعون بنعمته، بل كثير من أولئك وللأسف يضيعون الصلاة أو يؤخرونها عن وقتها، وقد يصطحب بعض الفتيان فتيات لا تربطهم بهن علاقات نسب أو علاقة شرع، ولربما يأخذون معهم الآلات والمعازف للقيام بالعزف والرقص والاختلاط والمجون في تبرج وسفور وعدم احتشام وتوقير للواحد الديان فوق أرضه وتحت سمائه وهم يتمتعون بنعمه وآلائه الظاهرة والباطنة في تلك الرحلات وغيرها، عوض أن يشكروا الله تعالى ويحمدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا، ويتأملوا في عظيم قدرة الله وبديع صنعه ولطفه ورحمته بعباده. مع العلم أن الله تبارك وتعالى لا يمنع عباده من التمتع بطيبات الحياة الدنيا، وإنما ينبغي أن يكون ذلك في إطار ما أحله الله تعالى لهم.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- وتضرعوا إليه جميعا بالدعاء وقولوا بلسان وقلب واحد اللهم اجعل ما أنزلته علينا عونًا لنا على طاعتك وشكرا لنعمتك، وثباتا على هديك وصراطك، آمين، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل…
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: ثبت عن نبينا ورسولنا محمد سُنَن قولية وسُنَن فعلية كان يأتي بها عند نزول الأمطار، ومن ذلك أنه كان يقول إذا رأى الغيث: «اللهم صيبًا نافعًا» رواه البخاري، وفي رواية لأبي داود «اللهم صيبًا هنيئًا»، وثبت عنه أيضًا أنه قال: «مطرنا بفضل الله ورحمته» رواه البخاري. أما إذا نزل المطر وخشي منه الضرر فيدعو بقوله : «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» أخرجه الشيخان.
أما السنن الفعلية فمنها استغلال وقت نزول المطر بالدعاء، واستحب بعض العلماء رفع اليدين لحديث: «اثنتان لا يرد فيهما الدعاء: عند النداء، وعند نزول المطر» أخرجه الحاكم وحسنه الألباني رحمه الله.
وكذلك يستحب كشف بعض البدن حتى يصيبه المطر، ثبت في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كشف النبي عن بعض بدنه ليصيبه المطر، وقال: «إنه حديث عهد بربه»، أي: حديث عهد بتخليق الله تعالى له.
أيها المسلمون: هذه الأمطار وهذه الأجواء الباردة يجب أن تدفعنا للمزيد من الشكر والثناء على الله بما هو أهله، حتى يزيدنا من فضله وإحسانه، ويكتب لنا في مزيده الرحمة واللطف والحفظ من كل مكروه.
اللهم يا ذا الأسماء الحسنى والصفات العلى نسألك أن تبارك لنا في ما أعطيتنا وتوفقنا لشكر نعمتك، كما نسألك الإحسان والمزيد من فضلك يا غياث المستغيثين و يا أرحم الراحمين.

د. عبد اللطيف احميد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>