شهد الخط العربي بعد مجيء الإسلام عناية العرب واهتمام العجم المسلمين، خاصة وأن الحرف العربي كان مرتبطا بالقرآن الكريم وجمعه، والسنة النبوية وتدوينها، فطوروا رسمه عبر العصور، وفرعوا أنواعه، وخالفوا بين أشكاله، وعددوا أقلامه، وأبدعوا في رسم حروفه، وتمايزت خطوط المغرب عن خطوط المشرق، فأضفوا جمالا ورونقا وبهاء على النصوص المكتوبة والمنحوتة، وزُينت به المساجد والصوامع والقباب والجدران، وكُتب بها على النقود، والأواني، إلى أن جاء عصر اللوحات.
علاقة الخط العربي بالحضارة:
نجد العلامة ابن خلدون في مقدمته يربط تقدم الخط العربي بتقدم العمران واتساعه، فلم يبلغ الغاية في الإتقان والإجادة لبداوة العرب وبعدهم عن الصنائع، وبعد اتساع رقعة الإسلام وفتح الأمصار واحتياج الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلمه، إلى أن بلغ رتبة من الإتقان والإجادة (1) ثم يقول: “حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخط وفسدت رسومه، وجهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران” (2).
لقد كان لتوسع الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي ودخول غير العرب في الإسلام دور كبير في الرقي بالخط العربي وتعدد أشكاله وأنواعه، وهذا ما أسهم في ترك بصمات هذه الشعوب في هذا الفن، فأبدع الفرس الخط الفارسي، وأبدع الأتراك الخط الديواني والرقعة، وأبدع أهل المغرب والأندلس خطوطهم المتميزة (3).
ازدهار الخط في المشرق العربي:
مر الخط العربي بمراحل وعصور ترقت فيه هذه الصناعة وانتشر في الأمصار بانتشار الإسلام، إلى أن جاء العصر العباسي، فناله ما نال غيره من أصناف الفنون والعلوم من ارتقاء وتقدم، وتنافس الكتاب في تحسينه وتجويده وتقنينه وتنويعه، فاخترعت الأقلام المختلفة، كالمرصع والنساخ والرياسي، وتعددت الأقلام وتنوعت حتى زادت أشكال الكوفي على عشرين شكلا، أما الخط النسخي فقد كان متداولا بين الناس في غير الكتابة الرسمية إلى أن جاء أبو علي بن مقلة، فحسن هذا الخط وجوده ونمقه، فاستعمل في كتابة المصاحف وأدخل في الدواوين، وبعد ابن مقلة جاء علي بن هلال سنة 413 هجرية، فزاد في تحسينه حتى حل محل الكوفي، وبعد ذلك تنوع الخط النسخي إلى أقلام (4).
وإن تحدثنا عن خط التعليق نجد أن أشهر من وضع قواعده هو الخطاط : مير علي تبريزي، التي سماها بالنسختعليق، وهي كلمة مركبة من “نسخ تعليق”، وقد اشتق الفرس هذا الخط من الخط العربي “القيراموز”، ونجد من أشهر خطاطيهم نجم الدين أبو بكر الراوندي الذي كان يجيد الكتابة بسبعين نوع من الخطوط إجادة تامة (5).
ونجد خط الثلث الذي هو من الخطوط المدنية القديمة قد عرف تقدما وتفرعا، فانقسم إلى ثلاثة أنواع وهي: المدور، والثلث، والتوأم، وهو من الحروف المعروفة والمستعملة المعاصرة، وبه كتبت الكثير من الأحاديث على جدران المساجد والقباب وفي المسجد النبوي، وبعض أجزاء المسجد الحرام بمكة المكرمة (6).
الخط العربي في الغرب الإسلامي:
يعد الخط المغربي بأنواعه من أجمل الخطوط العربية وأجودها، وقد نشأ هذا الخط وعرف تغيرا وتنوعا وارتقاء وتطويرا وعناية من لدن الخطاطين المغاربة، ففي عهد الأدارسة تفرع هذا الخط عن الخط الكوفي وغلب عليه الطابع الشرقي الذي كان يغلب عليه طابع البساطة وعدم الاغتناء، لتكون الريادة بعد ذلك لمدرستين: مدرسة الخط الإفريقي، ومدرسة الخط الأندلسي.
في عهد المرابطين نجد أن الخط الأندلسي كان منتشرا في الغرب الإسلامي، واستمر هذا الانتشار إلى عهد الموحدين حيث اهتم خلفاء هذا العصر غاية الاهتمام بهذا الفن، مما أدى إلى ازدهار الخطاطة وظهور خطاطين مجيدين مبدعين وقد كان منهم من يكتب بأكثر من خط كالخليفة المرتضى (7).
أما في العهد المريني فقد حدث نوع من التقدم للخط الأندلسي، واستكمل الخط المغربي شكله النهائي، وبدا تميزه عن الخط الأندلسي، كما عرف تقدما في العهد السعدي، وهذا يتجلى في كتابة المصاحف والزخرفة والكتابة على القطع النقدية والاهتمام بالوراقة وتعليم الخطوط في المدارس..، ومع مجيء العهد العلوي استمرت نفس أنواع الخط مع تفاوت في الجودة (8)، ثم تراجع الخط من حيث الإتقان، وهذا ما دفع بالخطاط المغربي أحمد بن قاسم الرفاعي الرباطي إلى القيام بمبادرة إصلاحية كما فعل ابن مقلة في المشرق، فألف كتابا في قواعد الخط وصناعته (9)، سماه: نظم لآلئ السمط في حسن تقويم بديع الخط (10).
جاءت مرحلة الحماية والاستعمار ليشهد الخط المغربي أزمة حقيقية بسبب هيمنة الحرف الأجنبي في التعليم والحياة العامة، ورغم ذلك فإن المغاربة تشبثوا بهذا الخط وعلموه في المدارس، لتظهر سنة 1949م مذكرات تعليم الخط العربي، كما حافظوا على إصدار النقود المغربية بخط الثلث المغربي (11).
عاد الاهتمام بالخط المغربي بعد الاستقلال، فاستعمل في كتابة الرسائل والظهائر الملكية، وكتب به المصحف الحسني المسبع الذي قام بإنجازه سبعة من الخطاطين المغاربة (12)، وبرز مجموعة من أعلام الخط المغربي كعبد الكريم سكيرج، وعبد السلام بناني، وعبد الكريم الوزاني، وبلحسن الطنجاوي وغيرهم، هذا إضافة إلى تنظيم مهراجانات ومباريات ومعارض وورشات لفن الخط العربي والمغربي، وصدور مرسوم بإحداث جائزة محمد السادس لفن الخط المغربي تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما افتتحت أكاديمية الفنون التقليدية بالدار البيضاء سنة 2012م (13).
أنواع الخط المغربي:
لقد كان الخط الحجازي والخط الكوفي أصلا تطور الخطوط في المغرب الإسلامي، فتولد من الخط الكوفي العراقي الخط الكوفي القيرواني والذي جاء منه الخط الإفريقي، أما الأندلس فتأثرت بالخط الكوفي الشامي فظهر الخط الكوفي الأندلسي، لتظهر ثلاث مدارس رائدة وهي: مدرسة الخط الإفريقي، ومدرسة الخط الأندلسي، ومدرسة الخط المغربي (14)، فتطور كل خط حسب خصائصه المحلية وتميز عن غيره، أما ما يخص المغرب الأقصى، فجادت خطوطه وتفرعت إلى خمسة أنواع أساسية وهي:
الخط الكوفي المغربي: وهو خط هندسي بديع، يمتاز بخطوطه المستقيمة وزواياه الحادة، ويعد هذا الخط الأصل الذي تطورت منه الأنواع المغربية الأخرى.
الخط المبسوط: يتميز هذا الخط بالوضوح وسهولة القراءة، وهو أعلى مراتب الخط المغربي، ويعرف عند العامة بخط الفقهاء، أو خط القرآن، أو الخط العثماني.
الخط المجوهر: من مميزاته صغر حروفه وتقاربها، وسمي بهذا الاسم لأن تناسقها يوحي بعقد الجوهر، وهذا الخط انحدر من الخط المبسوط.
خط الثلث المغربي: وقد اقتبس من خط الثلث المشرقي ويمتاز بليونة حروفه وانسيابها، كما يمتاز بإمكانيته غير المحدودة على التشكيل، ويستعمل في زخرفة المساجد والعمارة، والمدارس العتيقة.
الخط المسند: ويعرف أيضا بالزمامي، وقد اشتق من الزمام وهو التسجيل بالدارجة المغربية، كما يسمى أيضا بخط العدول، لأنه كان خاصا بالوثائق العدلية، وهو خط صعب القراءة مقارنة بالخطوط الأخرى، وقد انحدر هذا الخط من المجوهر (15).
كان هذا مسار الحرف العربي إلى أن وصل إلى أنامل المغاربة ليبدعوا ويتفننوا فيه، وينوعوا في أشكاله ورسومه،ويضفوا على هذا الخط صبغة مغربية مميزة،وكانت هذه أنواع الخط المغربي؛ ببديع هندسة الكوفي، وبساطة تركيب المبسوط، وتناسق حروف المجوهر، وليونة انسياب الثلث، وصعوبة خفة المسند.
ذ. عبد الحكيم خلفي
————-
1 – مقدمة ابن خلدون، دار البيان، د،ط، مج1/419-420.
2 – مقدمة ابن خلدون، مج1/421.
3 – الخط المغربي، تاريخ وواقع وآفاق، تأليف: عمر أفا، ومحمد المغراوي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 1434هـ، ص:25.
4 – تاريخ الأدب العربي للزيات، ص: 208.
5 – مجلة الفيصل، العدد 34، مارس 1980م، السنة الثالثة، ص:54.
6 – مجلةالفيصل، العدد 30،مارس 1979م،
السنةالثالثة، ص:59.
7 – معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، مج11/3748-3749.
8 – الخط المغربي، تاريخ وواقع وآفاق، ص: 39-40.
9 – معلمة المغرب، مج 11، ص: 3749 وما بعدها.
10 – نظم لآلئ السمط في حسن تقويم بديع الخط، لأحمد بن محمد بن قاسم الرفاعي الحسني الرباطي، تحقيق: محمد صبري، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1، 1434هـ.
11 – الخط المغربي، وتاريخ وواقع وآفاق، ص: 42.
12 – معلمة المغرب، مج 11، ص: 3749 وما بعدها.
13 – الخط المغربي، تاريخ وواقع وآفاق، من الصفحة: 50 إلى الصفحة: 56.
14 – الخط المغربي، تاريخ وواقع وآفاق، ص: 32.
15 – معلمة المغرب، مج 11، صفحات: 3749-3750-3751-3752.