تركيا واللعبة القذرة


تركيا هي الهدف الأصلي:
ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من اختلال في التوازنات الاستراتيجية ومن احتدام كبير بين القوى الدولية في سوريا وتوحد هذه الأطراف للضغط على تركيا وجرها إلى الحرب في سوريا يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل باتت تركيا هي الهدف الأصلي لهذه القوى التي توحدت في مواقفها رغم ما يظهر من تباين في مصالحها؟ هل هناك خطة تستهدف الوحدة الجغرافية لتركيا ومحاولة لتقسيمها؟
أذكر أنه عندما تم احتلال العراق سنة 2003 تحدث الزعيم الاسلامي التركي المرحوم نجم الدين أربكان في ندوة صحفية قائلا: إذا فكر الغرب في الدخول الى الأراضي السورية فاعلموا أن الهدف الأصلي هي تركيا بالدرجة الأولى.
لم يكن أربكان يتكلم من فراغ وإنما كان يتكلم من موقع الخبير بالتوازنات الدولية والمدرك للعمق الاستراتيجي التركي في ميزان القوى داخل منطقة الشرق الأوسط. ويتأكد كلامه هذا خصوصا بعد التغيرات الهائلة التي حصلت في تركيا ابتداء من سنة 2002 عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم بقيادة رجب طيب أردوغان.
منذ ذلك الوقت وتركيا تشهد تطورات اقتصادية وإصلاحات هيكلية كبرى حولتها من الرقم 119 إلى 14 عالميا حتى أصبحت تركيا تحتضن قمة دول العشرين الكبار. كما أن تركيا لم تعد ذلك المعبر الاستراتيجي الذي يمر عليه الكبار وتتصادم عليه أقدام الغزاة لأنها أصبحت هي نفسها من الكبار واقتصادها أصبح من الاقتصاديات الكبرى في العالم.
لذلك فإن تركيا الحديثة باتت تتعامل مع هذه القوى الدولية المهيمنة بمنطق الند للند، وهو الأمر الذي أزعج أعضاء هذه القوى، وجعلهم يعيدون حساباتهم الاستراتيجية تجاه تركيا التي باتت تتمرد على السياسة الدولية، وترفض أية هيمنة على المنطقة، بل أصبحت تتدخل بشكل واضح في الدعوة إلى إعادة صياغة نظام عالمي جديد يحقق العدل والسلام للشعوب في العالم.
كما أن تركيا وقفت إلى جانب القضية الفلسطينية، وتوترت علاقاتها مع إسرائيل، وقدمت شهداء في أحداث سفينة مرمرة. ولم تتوقف تركيا المعاصرة في سياستها الخارجية فقد ساندت ثورات الربيع العربي ومنها الثورة السورية التي أدرك الغرب والقوى الدولية بما فيهم روسيا أن تركيا تسعى إلى الوقوف ضد أي مشروع تقسيمي للمنطقة، وتوجه رسالة مفادها أن تركيا التي تم تحييدها عن قضايا المنطقة وعن قضايا العالم العربي والاسلامي لعقود طويلة هاهي تعود اليوم بقوة لاعبا صعبا في التوازنات الاقليمية والدولية.
تركيا بين مؤامرات الداخل والخارج:
وعندما ننظر إلى وضع تركيا في المرحلة الراهنة فإننا نجدها محاصرة من عدة دول وجماعات، كلها توحدت ضد تركيا وكلها تعمل من أجل الضغط عليها وجرها إلى مربع الحرب بل إلى فخ الحرب حتى يسهل التحكم فيها بسهولة وفرض شروطهم عليها.
فنحن نجد تحالفا بين روسيا وأمريكا والنظام السوري وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا وإيران والجماعات الارهابية مثل داعش والقوى الشعبية الكردية وحزب العمال الكردستاني وحزب الله وغيرهم. هذا التحالف كله موجه ضد تركيا ومتوحد في أجندته وفي استراتيجيته.

لا ننسى أيضا أن تركيا لا تواجه قوى خارجية فقط وإنما هي أيضا تواجه قوى داخلية تعمل على إضعافها من بينها حزب العمال الكردستاني والكيان الموازي وبعض قوى المعارضة التي تريد الانقضاض على حكومة حزب العدالة والتنمية، وإضعاف مؤسسة الرئاسة بقيادة رجب طيب أردوغان.
إن ما يجري اليوم داخل تركيا من تفجيرات ومن توتير للأوضاع وكذلك من مواجهة على الحدود التركية يعكس بشكل جلي أن هناك لعبة دولية قذرة تستهدف المشروع التركي الطامح في توحيد المنطقة والوقوف ضد مشاريع الهيمنة والتقسيم.
أن تتوحد القوى الخارجية مع القوى الداخلية هو دليل على أن تركيا باتت هي الهدف الأصلي لذلك. فهم يحاولون الضغط عليها داخليا وخارجيا واستدراجها إلى المستنقع السوري، وإدخالها في حرب ضد روسيا حتى يتم إضعافها، وبعد ذلك تفرض عليها شروط مثلما وقعت بعد الحرب العالمية الأولى وفي بداية قيام الجمهورية سنة 2023 مع اتفاقية لوزان وإنهاء الدولة العثمانية بشكل نهائي.
إن ما يجري اليوم يذكرنا تماما بما حصل في سنة 1916 حين عمدت القوى الغربية إلى إحداث فوضى كبرى داخل المنطقة نتج عنها اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وإنجلترا، وتم تقسيم العالم العربي وفصله تماما عن تركيا التي لعبت القوى الاستعمارية في الانقضاض على الدولة العثمانية من الداخل ومن الخارج.
إن التاريخ يعيد نفسه ولكن ليس بنفس الشخوص فهذه اللعبة الدولية القذرة التي تحبك اليوم في منطقة الشرق الأوسط تسعى إلى إعادة صياغة اتفاقية سايكس بيكو جديدة بين روسيا وأمريكا، وتقسيم المنطقة وفق معايير جديدة إثنية وعرقية وطائفية يضمن توتر المنطقة لعقود طويلة ويحفظ مصالح القوى الدولية الاستعمارية فيها.
إن تركيا التي أعلنتها بكل وضوح أنها ضد أي تقسيم للمنطقة ولسوريا باتت هي الهدف الأصلي لهذه اللعبة القذرة في منطقة الشرق الأوسط. وستقوم هذه الدول بإنشاء دولة كردية في سوريا تكون شوكة في جنوب تركيا، وتوقف أي تمدد تركي، كما أنه سيتم السعي إلى مزيد من التوتر داخل تركيا في المنطقة الشرقية وتصاعد المواجهات أكثر بين الدولة التركية والأكراد الذين يتلقون الدعم من القوى الدولية والغربية حتى يعلنوا دولة مستقلة في جنوب شرق تركيا.
من ناحية أخرى هناك محاولة للزج بتركيا في حرب ضد روسيا حتى يزداد الوضع تأزما، ويبدو أن هناك لعبة تدار الآن بين أمريكا وروسيا لاستدراج تركيا إلى الحرب الغاية منها هو إجبار تركيا على إعادة توقيع جديد لاتفاقية المضائق التي تنتهي سنة 2023 خصوصا وأن تركيا أعلنت أنها عازمة على إنشاء قناة إستانبول، وستغلق مضيق البوسفور الذي تمر منه البواخر الروسية الآن دون دفع أي رسوم. وستكون روسيا في المرحلة القادمة تحت رحمة الدولة التركية التي ستتحكم في قناة استانبول وستفرض رسومها عليها.
لقد باتت تركيا هي الهدف الأصلي مثلما ذكر المرحوم نجم الدين أربكان سنة 2003 وستتعرض تركيا والمشروع السياسي التركي إلى عدة هزات ومؤامرات من أجل إخضاع تركيا إلى المطامع الغربية والدولية وإعادتها إلى مربع الممر الإقليمي الذي يعبر عليه الغزاة ومحاولة إلجامها، وإن اقتضى الأمر تقسيمها إذا كانت ستظل تمثل خطرا على المصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم.

د. زبير خلف الله

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>