تجري اللحظة عملية انحدار رهيبة على المستوى الأخلاقي بما تعنيه من ارتفاع لمنسوب العدوانية البربرية المندفعة بلا تبصر يوقف هذا الإيقاع المخيف لهرولة الإنسانية إلى الهاوية.
وهي في شقها الغربي تتقمص الروح الغابوية لتغرق العالم في حمى النار والحديد بتسويقها لأسلحة الدمار الشامل المقرونة بتدخلاتها في شؤون الدول المستضعفة باسم نشر القيم الديمقراطية والحرب على الإرهاب، وتتغذى في شقها الشرقي بالصراعات الدموية المستديمة للأشقاء الأعداء على السلطة وعلى المكاسب . والطامة أدهى بسريان العدوى إلى العوام حيث زادتهم تيها وتخبطا بين الأدعياء والشركاء المتشاكسين حتى آثر الراشدون خوفا على دينهم عزلاتهم ولسان حالهم يردد (رب نعل شر من الحفاء)، وفي سياق هذا التخبط المأساوي تطفر إلى السطح بين الحين والآخر موجات وحملات صادقة لمساندة الدين الإسلامي. وهي حملات وموجات يغلب عليها طابع الغيرة والحرقة للإسلام لكنها حرقة موسمية عابرة تحشد الغيورين لتحريك جثة الجشعين الجاثمين على جسم المستضعفين كما يصف ذلك الثوري تشي غيفارا لكنها لا تحرك حتى جفونهم لأن هؤلاء الجشعين يدركون عبر دوائر تجسسهم ودراساتهم أن المسلمين استحالوا إلى ظاهرة صوتية فحسب وسرعان ما يخبو ضجيجهم حين يبحون ويتعبون. كما أن حملات هؤلاء الماكرين لإفراغ تجليات الدين عبادات ومعاملات من مضامينها الربانية الحكيمة تجعلهم لا يعيرون كبير اهتمام لتحركات المسلمين وإن ساندها العالم برمته . وبالمثال يتضح المقال فقد انطلقت في بداية هذا الشهر الحملة العالمية للحجاب، وهي الحملة التي تعود جذور انطلاقها للفتاة البنغالية نظمة خان التي لاقت معاملة جد قاسية وهي تنتقل رفقة أسرتها من بنغلاديش للعيش في أمريكا. فقد تسبب ارتداؤها للحجاب في سخرية عارمة لزملائها الأمريكيين منها، حيث شبهوها بنينجا وباطمان وأسامة بن لادن وبالإرهابية وتحاشوا صحبتها فقررت أن تتصدى لهذه العدوانية المجانية فنظمت حملة دعوة لارتداء الحجاب تحت شعار (حجاب ليوم واحد) ولقيت دعوتها استجابة واسعة من لدن غربيات تفهمن حالة القهر التي توضع فيها النساء المسلمات حين يرتدين الحجاب ببلاد الغرب، وكان الترسيم لليوم العالمي للحجاب، في الفاتح فبراير من كل سنة.
فإلى أي حد نجحت دعوة نظمة خان في رج ضمير شرفاء العالم لمساندة النساء المسلمات في ارتداء آمن للحجاب؟
ودون أن نبدي تشاؤمنا من ثمار هذه الحملة (وبغض النظر عن فرنسا التي تحالف فيها التيار اليميني المتطرف وتيارات علمانية وصهيونية لإبطال إقامة الحملة العالمية للحجاب والتي كان من المقرر تنظيمها مطلع شهر فبراير من هذه السنة ونجحت اللوبيات المعادية للمسلمين في مسعاها لإلغائها، كما أن دولا غربية سمحت لهذه التظاهرة بإقامة نشاطها)، فإن موجة الإسلاموفوبيا والعداء لكل مظاهر الإسلام تعضد منسوب هذا التشاؤم إذ ارتفعت بشكل خطير بات يهدد نساء المسلمين في حقهن في حرية فردية وخيار خصوصي يهمهن وتحميه قوانين غربية وتشريعات لطالـما استعملت لردع المسلمين ووصمهم بمحاربة حقوق الإنسان والحقوق الفردية العتيدة. وهو أيضا تشاؤم له ما يبرره حين نقارن بين حجم القهر الذي تعيشه المرأة الغربية كسلعة ونستحضر في السياق نموذجا مثاليا على هذا التسليع ويتعلق بعارضات الأزياء اللواتي يستهلكن بشكل وحشي لترويج سلع و منتوجات السوق الغربية المتوحشة ويستغنى عنهن بمجرد مرور سنوات جد قليلة على عملهن، بحلول صبايا جديدات أكثر طراوة وإغراء منهن، دون أن يرتج الضمير الغربي لهذا التسليع الوحشي وكما يقول المغاربة في مثلهم البليغ (من يستطيع أن يقول للأسد أن رائحة فمه كريهة)إذ تتعرى أفواج جواري الغرب ما استطعن إلى ذلك سبيلا ودون سابق إنذار يتخلى عنهن عرابو عريهن لعيادات الأطباء النفسيين والإدمان كما لا يبدي الثرثارون أدنى استنكار لهذه الفواجع الساحرة المظهر الخربة الداخل، لكن وفي المقابل، حين تتغطى المرأة المسلمة وتستتر تصبح رمزا للخنوع والضعف والخضوع للرجل.
ومع ذلك فإن التشاؤم الأكبر الذي يهون أمامه كل تشاؤم هو ذلك الذي يستمد جذوره من واقع الحجاب بالدول الإسلامية نفسها، إذ يلخص لوحده حجم الشروخ التي تسكن روح المتحجبات المتذبذبة وروح المسئولين المسلمين الأكثر عدوانية تجاه الحجاب من الغربيين أنفسهم، ففي الوقت الذي يعرف فيه الحجاب عملية تمييع ومسخ ممنهج لفلسفته ومراميه الرسالية الحكيمة باعتباره سترا ولباس تقوى فإن مؤسسات عربية لمسلمين تضع المتحجبات في فوهة المدفع وتعرضهن لأحكام جائرة سيمتها العسف والجور لدفعهن إلى قلع الحجاب أو التخلي عن العمل ..وموازاة مع كل ذلك تتخلى المحاضن الأسرية عن دور التوجيه الأخلاقي الحكيم في مجال الحجاب. وإذا كان هذا حالنا فكيف يوقر الآخر خياراتنا الدينية ونحن أول من يدوسها بكل عجرفة. وقديما قال الحكماء العرب ( لا تخف ممن تحذر ولكن احذر ممن تأمن)وصدق سبحانه إذ قال في وصف ازدواجيتهم (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)
ذة. فوزية حجبـي