تعد ظاهرة الاختلاف إحدى الظواهر الجميلة في عالم الكون والطبيعة تستحسنها النفوس وتبتهج بها الأفئدة لكن كثيرا من الناس يضيقون بالاختلاف بينهم، ويكرهون النظر إلى مخالفيهم، وستسعى هذه السلسلة إلى بيان كثير من الحقائق، وتقرير مجموعة من القواعد التي تم استخراجها من القرآن الكريم ومن السنة، ومن التراث العلمي لعلماء المسلمين في علوم الفقه والأصول.
ومن أول القواعد التي يلزم تقريرها وتحريرها، وفقه عبارتها وإشارتها، القاعدة التي صدرنا بها هذا المقال وجعلناها بداية الاستدلال على أن الاختلاف بين الخلائق فيه من الأسرار واللطائف ما يقتضي استحضار حِكم الشارع الحكيم في التعاون وتكامل الوظائف.
وبيان هذه القاعدة يستلزم نظرين واستنتاجين؛ فأما النظران فيتعلق أحدهما بالنظر في الآيات الكونية المنظورة، وثانيهما بالنظر في الآيات القرآنية التشريعية المسطورة، وأما الاستنتاجان فيتعلق كل واحد منهما بكل واحد من النظرين.
فالنظر المتعلق بالآيات الكونية المنظورة ينتهي الناظر فيه إلى ملاحظتين واستنتاج:
الأولى: أن جميع ما خلق الله من مخلوقات: أجناسا وأنواعا وأفرادا، جواهر وأعراضا جليها وخفيها، شاهدها وغائبها… لا تكاد تجد فيها شيئين يتماثلان تماثلا تاما، أو يتطابقان من جميع الجهات والاعتبارات تطابقا كليا، أو يتساويان تساويا واحدا، وإنما يختلف كل واحد منها عن الآخر نوعا من الاختلاف قد يزيد أو ينقص، ويباينه قدرا من التباين قد يقوى وقد يضعف، ويغايره نوعا من التغاير قد يكثر حتى يطغى وقد يدق حتى يخفى.
الثانية: أن جميع هذه المخلوقات المختلفة رغم اختلافها اختلاف تباين أو تنوع أو تغاير أو اختلاف وظائف وعلاقات فإنها تتكامل في وظائفها وتأتلف في غاياتها حتى في صور اختلاف التضاد والتناقض؛
فمن الجهة الأولى كل من المتضادين يؤدي غاية واحدة ووظيفة واحدة هي تحقيق التوازن في كون الله وبين مخلوقاته.
ومن جهة ثانية تحقيق الانسجام والتناغم والتكامل مع بقية مكونات المنظومة الكونية في بعدها الجزئي والقطاعي أو بعدها الكلي والشمولي.
ومن جهة ثالثة تحقيق الخضوع المطلق لنظام الله تعالى وسننه وقوانينه الذي خلق هذه المخلوقات للسير وفقها،
ومن جهة رابعة تحقيق العبودية التكوينية، ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت: 11)، إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ( مريم: 93)
أما الاستنتاج: فيؤول إلى القول بأنه مادامت كل المخلوقات تتسم بالتنوع والاختلاف مع التكامل في الوظائف، والائتلاف في المقصد والغاية والخضوع الفطري لنظام كوني واحد، فإن هذا لا يدل إلا على وحدة الصانع ووحدة الخالق، الذي خلق الخلق مختلفا وخلق له وظائف متعاضدة، وما على الجميع إلا أن يؤدي واجبها، وغاية واحدة على الجميع الحج إليها، وسننا ثابتة على الجميع أن يحتكم إليها وأن يخضع لها.
وخلاصة كل من النظرين والاستنتاج أن الاختلاف سنة ربانية تكوينية يخضع لها الكون كله ولا يحاشى أحد من المخلوقات من الدخول تحتها، ولا دخل للخلائق في صنعها وإيجادها أو تجاوزها وإبعادها وهي تفيد التنوع والتعارض ظاهرا، و التكامل والتساند والتعاضد باطنا، وتدل على الاختلاف في المخلوقات ظاهرا ، وعلى وحدة الخالق ظاهرا وباطنا، ومن هنا قلنا الاختلاف سنة تكوينية
أما النظر في الآيات القرآنية المسطورة فيفضي بصاحبه إلى ملاحظتين واستنتاج أيضا :
الأولى تتعلق ببيان الله تعالى لعباده وإرشادهم إلى أن معرفة ظاهرة اختلاف المخلوقات دالة على وجوده ووحدانيته، ودالة أيضا على بديع صنعه وعظيم قدرته في خلق الخلائق وجعلهم مختلفين أعيانا، ومتكاملين وظائف، ومؤتلفين جميعا في سلك العبودية لله تعالى. ولنا أن نتأمل الآيات التالية:
- قول الله تعالى: وَمِنَ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْارْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ (الروم : 22).
- إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون (البقرة :164)
- وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله (الأنعام:141)
وغير هذا من الآيات القرآنية التي تدعو إلى النظر والتفكر في ظاهرة الاختلاف في الألوان والثمرات والأعيان والظواهر الكونية والحياتية واعتبارها آية كونية دالة على وجود الله(= آية) ودالة على عظمته تعالى واستحقاقه للألوهية والربوبية والعبودية وحده، وفي هذا السياق جاء مدح ظاهرة الاختلاف التكويني الخلقي وأنها تمثل أمرين : الأول عظمة الله جل جلاله تسوجب إفراد الله تعالى بالتأليه والعبادة، والثاني يمثل نعمة من نعم الله تعالى وما ذرأ لكم في الارض مختلفا ألوانه (النحل:13)، فالتعبير ب»لكم» مشعر بالنعمة والإنعام على نحو: هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا (البقرة : 28)، والنعمة تستوجب شكر المنعم، وشكر المنعم عبادة والعبادة لا تكون إلا بما شرع.
الثانية: تتعلق بتوجيه الله جل وعلا لعباده من بني آدم (= الخلق المكلف) إلى ما ينبغي التزامه من آداب وضوابط وأحكام تجاه ظاهرة الاختلاف في الكون والحياة تصورا واعتقادا، أحوالا وأعمالا، حالا ومآلا حتى يستثمر ذلك في الاتجاه الصحيح وهو الحكمة من سنة الاختلاف. ويكفي في هذا المقام التنبيه إلى الأحكام والضوابط والشروط الواردة في قوله تعالى في الآيات القرآنية والتوجيهات النبوية التالية:
- خــلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعــل بينكم مــودة ورحمة (الروم: 21)
- يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13)
لذلك كان الخروج عن مقتضى المودة والرحمة والتعارف وأمثال ذلك من محاسن الأخلاق في معاملة الغير مخالفة لمقصد الله وعصيانا لأمره، وذلك مما يفضي إلى تحويل نعمة الاختلاف إلى نقمة … أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض (الأنعام:65)
بل إن رسالة القرآن جاءت لتبين للناس ما اختلفوا فيه من الحق تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا، ووجوب رده إلى الله ورسوله، ووجوب التعامل مع المخالف بأحسن الأخلاق وأفضل الآداب في سائر أبواب المعاملات والتصرفات التي يختلف الناس في تقديرها ويتفاوتون في تدبيرها لتفاوت قدراتهم الفكرية والبدنية واختلاف أحوالهم النفسية وأوضاعهم الاجتماعية زمانا ومكانا.
أما الاستنتاج فيتعلق بأن الله جل وعلا بين لنا في كتابه المنظور والمسطور أن الاختلاف سنة ربانية تكوينية تجسد عظمة الله جل جلاله في الخلق، وأن اختلاف الخلائق لا يلغي ائتلافها ووحدتها وتكاملها وأن الاختلاف مطلوب لغيره وهو التكامل، ولغاية أسمى هي الرحمة والتوسعة على العباد، والتدليل على عظمة الخالق ووحدانية جل وعلا.
لذلك بين الله عز وجل قي كتابه المتلو أحكام الاختلاف ومقاصده ووجوب الامتثال للآداب والشروط والحدود التي حدها الله تعالى لخلقه وشرعها لهم، ومراعاة مقاصده والحكم من خلقه الخلق مختلفين، وهذا الاستنتاج هو الذي سمح لنا بصياغة القاعدة وفق العبارة التالية: الخلاف بين المخلوقات طبيعة تكوينية والالتزام بآدابه وشروطه فريضة تشريعية. ولذلك لا يجب السير في معاكسة السنة التكوينية ولا عصيان الفريضة التشريعية فالخروج عنهما هو الذي يولد الاستبداد بجميع أنواعه والطغيان والعدوان على حق الله أولا، وحق الآخرين في التفكير والتدبير ثانيا، وانظروا رحمكم الله كم عانت البشرية والأمة المسلمة حينما حادت عن هذه القاعدة. وليس ينقل البشرية عموما من الشر إلى الخير إلا الاستفادة مما وهبها الله تعالى من نعمة اختلاف المواهب والطاقات والقدرات واختلاف المناهج والطرائق أولا، ولا ينقل الناس من الحياة الضنك إلى الحياة الطيبة إلا بتحصيل الخضوع للسنة التكوينية والفريضة التشريعية معا، لأن كل من الطبيعية التكوينية والفريضة التشريعية تستلزم الخضوع والامتثال للمكون المشرع الحكيم الله تعالى، وإذا كان كل من الخضوعين عبودية فإنهما يختلفان من جهة أن الخضوع التكويني عبودية اضطرارية بينما الخضوع التشريعي عبودية اختيارية، والله عز وجل يريد منا أن نعبده اختيارا كما نعبده اضطرارا كما قرر الإمام الشاطبي في موافقاته. فحينما نختلف لموجبات طبيعية نكون في عبودية اضطرارية وحين نتأدب بأدب الشرع مع مخالفينا نكون في عبودية اختيارية. ويترتب على هذا قاعدة أخرى هي أن الخلاف مجرد وسيلة وليس غاية. وهي موضوع الحلقة المقبلة.
د. الطيب بن المختار الوزاني