المعلم والمتعلم بين الماضي والحاضر


إن العلم والتربية مقترنان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ وبينهما علاقة تأثر وتأثير، فالعلماء كانوا يتلقون التربية في البيت، وعندما يذهبون إلى مجالس العلم يحرصون أشد الحرص على تعلم الآداب والأخلاق الفاضلة؛ حيث إن العلم بلا أخلاق لا يساوي صاحبه شيئا، فحينئذ تكون العلاقة بين المعلم والمتعلم هي علاقة احترام وعلاقة أبوية بالدرجة الأولى، فيقل الاعتداء على المعلم إن لم نقل يستحيل أن يقع؛ لأن ضرب الأب ناذر ما نسمع أن أحدا ضرب والده، لكن عندما ضعف دور الأبوين في تعليم أبنائهما ما ينبغي أن يعلموهم وقع ما وقع.
فمحزن جدا أن يكون معالج القلوب في الحضيض ولا نحرك ساكنا، ترى هل التعليم بالقدوة مفقود أم ماذا؟ إلى عهد قريب كنا لا نستطيع أن نرفع أعيننا أمام شيوخنا وفي معلمينا، بل نخدمهم ونحفظ كلامهم، وأما الآن فقد أصبح المعلم لا يملك قيمة، بل حتى إن القوانين تعلي من شأن التلميذ وتقلل من شأن المعلم، فبالله عليكم أيها القراء الأفاضل، والمربون الأوفياء لدينهم ووطنهم هل هكذا ترفع قيمة العلم والعلماء و يصير تطور البلاد نحو التقدم والازدهار ويتجاوز الانحطاط والهوان. إن الأمة لن تلحق بالركب إلا إذا أصلحت مناهج تعليمها وأعطت المكانة لطلب العلم والعلماء، ولا يمكن بناء ذلك إلا بالتدرج، فالتلميذ في أسلاك التعليم يتلقى العلم عن المعلمين ويتطور أداؤه حتى يصبح عالما ينمي مجتمعه ويقدم بلده ويرفع مكانته في الدنيا والآخرة، ويكون المعلم رسولا كما قال أحمد شوقي، أو يتراجع أداؤه حتى يصبح قاتلا لمعلميه ووبالا على أسرته ومجتمعه وأمته، إن للعلم مكانة خاصة في نفوس المعلمين والمتعلمين، ومن أجل ذلك كان اشتراط الشروط أمرا جائزا عقلا قصد اختبار صبر المتعلم ومدى حرصه على البلوغ إلى أهدافه النبيلة، فكان العلم يطلب في أماكنه والطالب هو الذي يضرب في الأرض، ويتغرب عن وطنه وأهله، ويذهب في الشتاء والصيف إلى المساجد والمدارس وأماكن طلب العلم، ولا يهمه شيء غير الحصول على العلم؛ لأنه ترسخ لديه أن الارتقاء في هذه الحياة الدنيا والفوز بالآخرة مرتبط بالعلم، ومن تأمل واقع الغربيين اليوم وما حققوه من إنجازات يجد السبب واضحا، إنه الحرص على أخذ العلم، ولا يخفى على ذي بصيرة دور العمل بالأسباب، فهي التي توصل إلى النتائج حتى وإن كانت العقيدة فاسدة. والدنيا يستوي فيها الكل، والفائز فيها هو الذي يأخذ بالأسباب. واللجوء إلى التعلم لا ينبغي أن يكون إجباريا فالذي يأتي إلى أماكن التعلم خوفا من الغياب فإنه يسجل الحضور الجسدي لا غير، والذي لا يستطيع أن يوفر وسائل التعلم، ليس لعدم ملكيته ثمنها، وإنما لاعتقاده أن الدراسة لا تفيده، وأن الأشياء الأخرى هي الأهم، فهذا لن يتعلم، فالعلم يتطلب الميل الكلي إليه كي يتم الحصول على بعضه، فعندما ينظر إلى المربي على أنه رجل أمن يقوم بالحراسة فقط، فإن الأمر خطير جدا فصاحب العقل الرشيد والذكي الفطن مدرك تدهور الأمر و خطورته تمام الإدراك، فإن الطالب لم يعد يذهب إلى المدرسة بناء على رغبته كما كان الأمر عند الرعيل الأول، فعندما يضمحل هذا الشرط الأساس فكبر على العلم أربعا، المدرسة هي التي تستقبل المتعلم برغبة،
فحقيقة المتعلم أنه يصبر على ذل التعلم فيهرع إلى الشيوخ في بلدانهم يضرب أكباد الإبل كي يحقق مسألة واحدة أو يفهم حديثا أو يصحح سندا، أو يأخذ منه العلامة التي توصله إلى شيخ آخر، حينها كان العلم عزيزا وصاحب العلم رفيعا، فعم الاحترام والتقدير، والتواضع، وحسن الإنصات فانتشر العلماء في البقاع يعلمون الناس ويرغبونهم في الحصول على مرضاة الله لا على شيء آخر، أحبوا بصدق طلبتهم فعلموهم وسهروا على تربيتهم فكانوا لهم أبناء لم تلدهم أمهاتهم، ونتج عن ذلك انتشار العلم والوعي والأخلاق، وانمحى الجهل من المجتمع، أما الآن فقد تغيرت الأمور فأصبح رجل التعليم يغرق في مشاكل المادة يقبل على الدنيا وهي هاربة منه، يفكر في الأولاد وما سيوفر لهم من المتطلبات التي لا تنتهي، لا يؤدي واجبه بناء على اعتبارات واهية، نسي أن دوره أن يرشد الناس إلى ما فيه خيرهم، وأن يكون رائدهم ومرشدهم، يكرس مبدأ تحمل المسؤولية للجهة المختصة وينسى أن كل نفس لاتزر وزر أخرى، هذا ما يكون سببا أحيانا في إهمال الواجب.
أما شأن المتعلم فهو باد إلى العيان كالشمس في كبد السماء ، كثرت المغريات فتم هجران العلم وحلت محله الوسائل المفسدة للطاقات البشرية، وظهر التقليد الأعمى في وسائل لا تسمن ولا تغني من جوع، أصبح المظهر يشكل جانبا مهما في حياة الإنسان -وهذا على سبيل إهمال الواجب- يقضي الشاب والشابة نصف ساعة على الأقل أمام المرآ ة لتجميل منظره والظهور بأحسن صورة؛ ولكن في الوقت نفسه لا يهم إن كان التفكير سيئا، لم لا يعمل هؤلاء على تزيين العقل بالحلم، وتحسين النفس بالأخلاق؟ ياليتنا أخذنا التقليد في البحث العلمي، بل العكس. إننا نصنف في المراكز الأخيرة بناء على تغير الأوضاع وذهاب آداب طلب العلم ونشره، وانعدام التحفيز والشهوة في طلب العلم أو تعليمه…

ذ. رشيد بن صديق

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>