الخطبة الأولى:
إن العبد المؤمن الصادق، الذي يؤمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبسيدنا محمد نبيا ورسولا، لا يعتريه شك، أو يراوده ريب، في أن الله تعالى، الواحدَ الأحد، الفرد الصمد، هو سبحانه الخالق البارئ المصور، الذي خلق الإنسان، وصنع الأكوان، وهو سبحانه المتنعم بالخير والإحسان، وهو سبحانه المتكرم بالعفو والغفران، وهو سبحانه الذي له الخلق وبيده مقاليد الأمور، وهو سبحانه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وهو سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو العزيز الغفور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (يس: 82)، وهو سبحانه الذي كتب على نفسه الرحمة، وقد وسعت رحمته كل شيء، قال تعالى: قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه (الأنعام: 13)، وقال جل في علاه: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (الأعراف: 156).
عباد الله: إن الرحمة في أفقها الواسع وامتدادها المطلق صفة رب العالمين الذي سمى نفسه رحمانا رحيما، وجعل رحمته تسبق غضبه، وشمل بها كل موجود، ولذلك أراد الإسلام أن يطبع الناسَ بالرحمة الشاملة، وأن يغرس جذورها في قلوبهم، حتى تمتلئ هذه القلوب خيرا وبرا، كما أمر الإسلام بالتراحم العام بين سائر العباد، وجعل ذلك من دلائل تمام الإيمان وكمال اليقين، قال رسول الله : «لن تؤمنوا حتى تَرحموا»، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: «إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة»، وقد ثبت في سيرة رسول الله أنه كان رحيما بالناس، وحتى بالحيوانات والجمادات وباقي المخلوقات، فمن هنا نفهم أن الإسلام يوسع آفاق الرحمة حتى تشمل جوانب فسيحة من الحياة، وعددا ضخما من الأحياء، وحتى يتحقق وعد الله تعالى الذي أخبر به رسول الله : «الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». فالرحمة صفة ربانية عظيمة، وخصلة نبوية كريمة، وعاطفة إنسانية نبيلة، تبعث على فعل الخير، وتدفع إلى بذل المعروف، وتحث المؤمنين على التعاون والتضامن والإيثار، وتغرس في قلوبهم الرقة والرأفة والحنان، والرفق والعطف والإحسان، وتحقق فيهم الأخوة الصادقة التي أرادها الله تعالى بقوله: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (الحجرات: 10). فرجاء رحمة الله تعالى مشروط بشروط، ومتوقف على ضوابط، منها:
- تراحم العباد فيما بينهم بدليل نص الحديث: «الراحمون يرحمهم الرحمان، إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، فالقوي مطالب برحمة الضعيف، والغني مأمور برحمة الفقير، والكبير ينبغي أن يرحم الصغير، وكل مطالب برحمة الآخر.
- ومنها اتصاف العباد بالإحسان بدليل قوله تعالى: إن رحمة الله قريب من المحسنين (الأعراف: 55).
- ومنها اتصاف العباد بتقوى الله، بدليل قوله تعالى: واتقوا الله لعلكم ترحمون (الحجرات: 10).
- ومنها أيضا ثبات العباد على الإيمان التام واليقين الصادق، مع الحرص على أداء الواجبات الشرعية، سواء منها ما هو واجب في حق العباد، أو ما هو واجب في حق رب العباد، بدليل قوله تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (الأعراف: 156)، وقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (التوبة: 72).
- ومنها طاعة الله، واتباع ما أنزل من القرآن والعمل به، وطاعة رسول الله ، بدليل قوله تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (آل عمران: 132)، وقوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (النور: 54)، وقوله تعالى: كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (الأنعام: 156)، وقوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (الأعراف: 204).
- ومنها عمارة عباد الله لبيوت الله، واشتغالهم فيها بالذكر والعلم والاستغفار، بدليل قوله تعالى: لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (النمل: 48)، وقوله : «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده».
ولكن، إذا نظرنا في حياتنا، وتأملنا أحوالنا، وحاسبنا أنفسنا، ونحن الذين اشرأبت أعناقنا إلى السماء، نطمع من ربنا أن يرحمنا بقطرات من الماء، يروي بها ظمأ الخلائق والعباد، ويسقي بها الأرض والبلاد، نجد أن مظاهر الرحمة وتجلياتها قد قلت وانحصرت؛ بل كادت تغيب وتنعدم…
وبسبب انتزاع الرحمة، قست القلوب، وتحجرت الأفئدة، وفسق الناس عن أمر الله، وانحرفوا عن الطريق القويم والصراط المستقيم، فكان ذلك مانعا رئيسيا من الموانع التي حالت دون تنزل الرحمات والبركات من رب العباد، فهلا استيقظنا من نومتنا؟، وهلا قمنا من غفوتنا؟، وهلا صحونا من سكرتنا؟
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا، ونحن عبادك وعلى عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، ونبوء لك بنعمك علينا، ونبوء لك بذنوبنا، فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبي الرحمة والهدى ورسول السلام، سيدنا محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه الكرام، وبعد:
عباد الله: إن من رحمات الله ، الذي كتب على نفسه الرحمة، وسمى نفسه رحمانا رحيما، ومن فضله وإحسانه، ومن جوده وكرمه، أنه –جل اسمه وتعالى جده ولا إله غيره- قد فتح أبواب رحمته وتوبته ومغفرته، أمام عباده الذين أسرفوا على أنفسهم، وعملوا السوء بجهالة، ثم تابوا من قريب، وأنابوا إلى ربهم، وأسلموا له، وسارعوا إلى الإقلاع عن الذنوب والمعاصي والآثام، ولازموا الندم، وأكثروا من الاستغفار، فأخبرهم سبحانه، أنه: يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات (الشورى: 23)، وقد خاطب رسوله بقوله: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم (الأنعام: 55)، وهو القائل سبحانه: قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (الزمر: 53)، والقائل كذلك: ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (النساء: 109)، وعن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يقول: «قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما فيك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة»، وهو سبحانه وتعالى القائل في محكم تنزيله: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين (الأعراف: 55)، وهو سبحانه القائل حكاية عن نبيه هود : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (هود: 52)، وهو سبحانه القائل حكاية عن نبيه نوح عليه السلام: فقلت اسغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا (نوح: 10-12)، وهو القائل كذلك: وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (الشورى: 26).
عباد الله: إن هذا لتقرير شامل وبيان واضح أن الله تبارك وتعالى يغفر للذين اقترفوا الإثم وارتكبوا الخطايا واحتملوا الأوزار، ثم تذكروا أنهم ما قدروا الله حق قدره، وأنهم تجاوزوا حدود الله، وانتهكوا حرماته، وتحسروا على ما فرطوا في جنب الله، فمسهم الألم، وعلاهم الخجل، وحذاهم الأمل، فهرعوا إلى التوبة، وسارعوا إلى الإنابة، ولزموا الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، وتشبثوا بحسن الظن وحسن الرجاء، وفروا إلى الله، فروا من معصيته إلى طاعته، ومن غضبه وسخطه إلى رضاه وطاعته، ومن عذابه إلى رحمته ومغفرته، ومن عدله إلى عفوه، ومن بطشه ونقمته إلى لطفه وسعته، أفلا نركب قطار هؤلاء الفارين إلى الله تعالى؟.
فسبحانك اللهم لا مفر منك إلا إليك، وسبحانك اللهم لا منجى منك ولا ملجأ إلا إليك.
اللهم إنك أنت القائل وقولك الحق: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير (الأنعام: 18)، وأنت القائل كذلك: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (فاطر: 2)، نسألك اللهم أن تنزل علينا رحماتك وبركاتك…
ذ. إدريس اليوبي