افتتاحية – ثقافة الأمة المسلمة أي علاج وأي تحصين؟ !


ثقافة كل أمة هي أصل بناء مرجعيتها في التفكير والتعبير والتدبير، بها تتشكل حياة الأمة، وبها تتصور الوجود وتفهمه، وعلى ضوئها تربي أجيالها وتصنع رجالها على حب الخير في القول والعمل.
ثقافة الأمة هي جوهر هويتها ونسيج وحدتها، وتعزيز هذه الثقافة هو ضامن قوتها، والعمل وفقها ـ هو وحده لا غيره ـ سبيل عزتها، وعلة قوة وجودها وشهودها.
وثقافة الأمة الإسلامية ليس لها من جوهر إلا الوحي قرآنا وسنة، وما صح عن العلماء الربانيين الراسخين؛ فمن مشكاة الإسلام صدرت، وبه صلحت وأصلحت، وبموافقتها لأصوله وهديه صحت وصدقت.
وقد تميزت الثقافة الإسلامية عبر التاريخ أكثر من غيرها من ثقافات الأمم الأخرى بقدرتها على التنوع باستيعابها للثقافات والحفاظ عليها والرقي بمكوناتها وتفجير طاقات أبنائها وشعوبها. ولقد مكن الله تعالى لكثير من الشعوب التي فتحت صدرها للإسلام من ارتقاء سلم المجد الدنيوي والأخروي بمجرد التلاقح والتخصيب بالثقافة الإسلامية.
غير أن ثقافة الشعوب الإسلامية في المرحلة الحديثة والمعاصرة ـ بسبب الغزو الثقافي والفكري ومختلف أشكال الاستعمار وضعف الأمة عن تحصيل مقومات التدافع الحضاري ـ دخلت في منعطف خطير لم يسبق له نظير أدى إلى ثلاث معضلات كبرى:
أولها: التذويب القسري، والتغييب القهري والتغريب الجبري. بسبب آثار عوامل الاستعمار والعولمة فما أُبقي فيها ولا منها إلا على أطلال وأشباح، وهمش دورها في تغذية الأرواح على قيم الخير والصلاح، وصارت مرمى لكل مغرض في القدح والتجريح من غير دليل صحيح، مغال في دعاوى التجديد والتصحيح على غير هدى من الشرع الحنيف ولا العقل الحصيف.
وثانيها: ضعف المعدن النفيس من المثقف المسلم الطبيب الماهر في مداواة النفوس ورفع ما انهزم في الواقع من الهمم والرؤوس. ضعفٌ تجلت آثاره في ضعفِ الرؤية والتشخيص الدقيق للأمراض الحقيقية في الأمة، وضعفِ ما يقترح من العلاج لكشف الغمة، وضعفِ الإنتاج الفكري كما وكيفا في جميع القطاعات الحيوية في ثقافة الأمة الإسلامية. ضعفٌ ترك آثاره في الواقع من جهة ما تولد عنه من فراغ، ومن جهة ما تولد عنه من تعطش الجماهير المسلمة إلى الغذاء السليم النافع في الدنيا والدين والتوجيه الفكري المتين. وقد ترك هذا الفراغ شروخا كبيرة وجروحا عميقة في جسم الأمة على رأسها شرخان:
< الأول منهما شرخ انتشار الثقافة الغربية بكل حمولاتها المعرفية والعقدية في كل المجالات والمستويات الرسمية منها والشعبية، وبكل أشكالها المنافية للأسس الصحيحة والمقومات الأصيلة؛ فزادت الأمة تغريبا وزادا أبناؤها جهلا بها ومعاداة لها.
< الثاني منهما شرخ انتشار ثقافة إسلامية بسيطة وهشة كانت رد فعل على الواقع أو كانت توظيفا مقصودا لجهات معينة في الداخل والخارج على حد سواء، نوع منها مال إلى الاستسلام وعدم المطالبة بتطبيق ما ورد في الإسلام من أحكام، ونوع آخر غالى في ذلك دون فقه صحيح في الاستنباط والتأويل ولا فقه سديد رشيد في الدعوة والإبلاغ و التنزيل. وكلا النوعين شوه صورة الثقافة الإسلامية بسبب الانحراف عن إعمال وسائلها وقواعدها، والذهول عن غاياتها ومقاصدها؛ فزاد التكالب على الأمة وثقافتها وعلى مؤسساتها ومعاهدها، ورموزها وشواهدها.
وثالث المعضلات: وهو نتيجة للمعضلتين السابقتين تمثل في ضعف القارئ المسلم، ضعف تعددت صوره وتنوعت نُذُره، وعظم خطره وضرره، ضعف في الحصائل المعرفية وضعف في التحلي بالفضائل الخلقية، فانغمس كثير من الشباب في الملاهي وأغفلوا العمل بالأوامر والنواهي فكثرت الخطوب والدواهي وبعدوا عن إبصار الحقائق والمباني وعن إدراك المقاصد والمرامي.
إذن فأي علاج وأي تحصين لثقافة الأمة؟
< ومحن ستتحول إلى منح يوم تعود الأمة عودة صادقة إلى بناء منظومتها التربوية والتعليمية وسائر مؤسساتها الحيوية انطلاقا من المرجعية الإسلامية العلمية والخلقية الصافية، ويوم تبوئ هذه المرجعية مكانتها الحقيقية ضمن مكونات المنهاج الدراسي كما وكيفا، ويوم نرى ناشئتنا قد أشبعت نفوسهم أخلاق الإسلام وترقت أرواحهم في مدارج التزكية والترقية على هدى الإسلام وتسابقت هممهم إلى حب الانتماء إليه والاعتزاز بالاستقامة عليه.
< وشدائد ستصير بشائر يوم ينهض الإعلام بوظيفته في التنوير بمبادئ الإسلام ويكف عن تزوير الحلال وتسويق الحرام وتصوير أهل الإسلام صورة صانعي الظلم والإجرام.
< وكروب ستنفس إن شاء الله تعالى يوم يعم وجود نموذج المسلم الفقيه الحكيم والقوي الأمين ـ فهما وعملا وإبلاغا ـ كل المجالات والقطاعات والتخصصات وفي جميع المستويات وبالقدر الكافي والكيف الشافي..
إلا إنها رسالة في تشخيص علاج ثقافة الأمة وتحصينها، يعد العمل بها من الأولويات، وتحصيلها يقي من كثير من المصارع المهلكات ويجلب لها كثيرا من المكرمات ويرفع الله بها الأمة في مراتب الخيرية درجات. « وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (التوبة : 105)
إننا اليوم مدعوون جميعا للوقوف وقفة رجل واحد لدرء ما يحدق بثقافة الأمة من مفاسد ومكايد، وحل معضلات ما يعصف بها من محن وشدائد:
< مفاسد ـ ستدفع بإذن الله تعالى ـ إذا أعدنا للوحي مكانته الأولى في التلقي والفهم، في العلم والتعلم، والتحقق والتخلق. وأعدنا له ما يحقق آثاره في الناس من مؤسسات ومن ذوي القدرات والمؤهلات.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>