مع الصادقين – عبد الله بن مسعود رجل ثور القرآن فثوره القرآن


ذكر الإمام الزركشي في مقدمة كتاب البرهان في علوم القرآن عن ابن مسعود قال: “من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علوم الأولين والآخرين” (1). وهذا معنى لطيف جدا؛ معنى تثوير القرآن في حياة الفرد والأمة، ذلك أن القرآن الكريم يبعث في صاحبه الحياة، ويفجر فيه الطاقات الهائلة، ويدفعه لاستثمار مواهبه التي منحه الله جل وعلا، وقد كان ابن مسعود من هذه الطينة التي ثورت القرآن الكريم، فأمدها بإمداداته، وأطلق لها عنان التألق والعروج في سماء الفضائل، وقد ظهر تعلقه بالقرآن الكريم -وحبل الله تعالى المتين- منذ اللحظات الأولى لإسلامه، فورد في قصة إسلامه أنه بمجرد ما أسلم رجع إلى النبي وقال له: «علمني من هذا القول؟ فقال له: إنك غلام معلم»(2)
فكانت هذه بداية الإرهاصات لهذه الثورة القرآنية المرتقبة في هذا الرجل، ومن أبرز تجلياتها ما ورد عنه أنه قال: “والذي لا إله غيره، لقد قرأت من في رسول الله بضعا وسبعين سورة، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغنيه الإبل لأتيته” وفي رواية “فقد أخذت من فيه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر” (3) وقال أيضا “ما نزلت آية إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيم نزلت”، وهذا الأخذ لم يكن أخذا لحروف القرآن الكريم وأشكاله ورسمه فحسب، بل كان أخذا للقرآن الكريم حفظا وتخلقا، علما وعملا، فيقول : “كنا إذا تعلمنا من النبي عشر آيات لم نتعلم من العشر التي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه.قيل لشريك -أحد الرواة- من العمل؟ قال نعم”.(4)
وليس إخباره هذا تزكية للنفس والافتخار، بل شهد له بذلك من لا ينطق عن الهوى، فقد ورد في سنن ابن ماجة مرفوعا: “من أحب أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد” (5). وقال : ««استقرئوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل»(6) كما شهد له بذلك الصحابة رضي الله عنهم، فقد سئل علي عنه فقال: “ّقرأ القرآن ثم وقف عنده وكفي به”(7). وقال في حقه أمير المؤمنين عمر: “كنيف ملئ علما -تصغير كنف تصغير تعظيم وهو الوعاء-” (8) وعن مسروق قال: “جالست أصحاب محمد فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يُروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ” الطبقات الكبرى(9) 2/342.
كل هذا التعلق بالقرآن وهذا الاغتراف من ينابيعه جعل ابن مسعود لا يرى إلا الله تعالى، فكان القرآن دينه وديدنه، فقد ورد عن بعض أصحابه أنه “كان إذا هدأت العيون قام فسمع له دويا كدوي النحل حتى يصبح”(10). وقيل لحذيفة: أخبرنا برجل قريب الهدي والسمت والدل برسول الله حتى نلزمه؟ فقال: ما أعلم أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله حتى يوازيه من ابن أم عبد.(11) ومعلوم أن هدي رسول الله كان قرآنا يمشي كما نطقت بذلك الآثار.
ومن المواقف العظيمة التي سجلت في حياة عبد الله بن مسعود مع القرآن هي صدعه بالقرآن الكريم وجهره به وسط صناديد قريش الذين كانوا يذيقون الضعفاء أصنافا من التعذيب، يقول الدكتور الصلابي: “بالرغم من أن ابن مسعود كان حليفًا وليس له عشيرة تحميه، وكان ضئيل الجسم، دقيق الساقين، فإن ذلك لم يحل دون ظهور شجاعته وقوة نفسه، فكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله بمكة: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رافعا بها صوته الرَّحْمَنُ – عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون”.(12)
ومن خلال ما تقدم تظهر لنا ثورة عبد الله بن مسعود القرآنية وكيف جعل منه القرآن الكريم بطلا تخشى مجابهته الأبطال، فرضي الله عن ابن مسعود وأصحابه، وجعلنا على هديهم وسنتهم، والحمد لله رب العالمين.
ذ. عبد الصمد احسيسن
——-
1 – البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/8.
2 – السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للصلابي 1/159.
3 – سير أعلام النبلاء للذهبي 1/471.
4 – السنن الكبرى للبيهقي رقم 5289.
5 – باب فضائل الصحابة، رقم 138.
6 – رواه مسلم والبخاري
7 – سير أعلام النبلاء للذهبي 3/300
8 – نفسه 1/490.
9 – 2/342 والإخاذ مجمع الماء شبيه بالغدير معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة أخذ.
10 – الزهد والرقائق لابن المبارك 1/32.
11 – فضائل الصحابة للنسائي 1/48.
12 – السيرة النبوية للصلابي 1/158ــ159.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>