حول إصلاح “التعليم الديني”


تقديم :
إن إعادة بناء الشخصية المغربية المسلمة التي تتصف بالاستقامة والقوة والمنعة، وتتحصن بالتعاليم والقيم الدينية الصحيحة، القادرة على هزم العوامل والتيارات التي تستهدف الأمة، يبدأ من التربية السليمة للإنسان وتعليمه وتربيته وتأهيله لأداء دوره في إعمار الكون وبنائه، وأخذه حظه من التربية ونصيبه من التعليم واكتساب الخبرات والمعارف والمهارات…
ومن هنا وجب الكشف عن واقع نوع من منظومتنا التربوية يسمى “بالتعليم الديني” وإخضاعه للدراسة والتحليل وتشخيص وضعيته –معرفيا ومنهجيا- وإبراز ما يشتكي منه من ثغرات تضعف من طاقاته وقدرات المنتسبين إليه، والبحث عما من شأنه أن ينهض به ويعيده إلى المسار الصحيح مع تحديد الأهداف العامة الكبرى له وكذا النوعية التي تخص مواده ومقرراته، بما يجعله يسهم في إعادة بناء الأفراد والأمة من منطلق أن الخروج من أزمة التخلف الذي يعيشه المجتمع والحفاظ على ثوابته لا بد أن يكون ذا صلة وثيقة بالإسلام وثقافته وحضارته ونظامه القيمي.
تصحيح مفهوم “التعليم الديني”:
وأول ما يطالعنا في هذا النوع من التعليم الأصيل، والعتيق والشرعي… الاصطلاح عليه “بالتعليم الديني” مما لا يستقيم مع المفهوم الحقيقي للتربية الدينية –وكذا مفهوم العلم في الإسلام- إذ أن المفهومين الحقيقيين لهذين المصطلحين انطلاقا من التراث التربوي الإسلامي، الذي يتسم بالشمولية والتكامل، فالتربية الدينية مجال نوعي يتكامل مع مجالات وتربيات أخرى عامة تتسع باتساع الحياة في المجتمعات الإسلامية وتنتظم في داخلها تربيات: علمية، وطبيعية، واجتمــاعية، ورياضية وتقنية… ومن ثم فاختزال التربية أو التعليم في الدينية بقصرها على تعليم ما اصطلح على تسميته “بالتعليم الديني” -يركز في مناهجه على: القرآن الكريم والحديث والفقه وأصوله… وجعل الصفة الإسلامية مرادفة للدينية- يبعدها عن المفهوم الحقيقي لها الذي يجمع بين تأديب النفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسم… فهي بهــــذا وبالعلـــوم والمعارف التي تخدم هذه التربيات –تعني أي التربية أو التعليم الديني- التربية الدينية والخلقية والعلمية والجسمية وغيرها دون الاقتصار على نوع واحد منها، ومثل ذلك وصف العلوم الإسلامية -التي تعنى أساسا بمختلف مجالات المعرفة- بالروحية أو بالدينية فإنه لا يستقيم أيضا مع حقيقة الإسلام ومفهومه للعلوم التي هي دعوة للحياة والمادة، كما هي دعوة للآخرة والروح، فكما أنها تحض الإنسان على نصرة الدين والعمل بتعاليمه، تحثه على الانتفاع بها في دنياه يقول تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (غافر:5)، فالإسلام ليس مجرد ديانة روحية لا صلة لها بالعلم في معارفه ولا بالدنيا في سياستها واقتصادها وعمرانها… ولكن الإسلام دين وعلم وعمل، وجامعة القرويين التي تمثل ذاكرة الأمة العلمية والثقافية التربوية كانت تخرج بعلومها الإسلامية المشتركة علماء الدين والدنيا، وما زالت خزانتها تزخر بمراجع وكتب في مختلف العلوم بما فيها الرياضيات والفلك والطب وغيرها.
- ثنائية وانشطار:
ثم إن تقسيم التعليم إلى ديني/شرعي تقليدي/أصيل عتيق… وعصري علمي حديث، تقسيم دخيل على التعليم عندنا، فرضه الغرب الأوربي عندما استعمر البلاد الإسلامية، ونشأ عنه انشطار في العقل والتفكير والثقافة بين المغاربة والمسلمين عامة، وأفرز ثقافتين متباينتين: إحداهما تتعامل وتعالج قضايا الدنيا بمختلف مجالاتها، والثانية تتعامل مع ما اصطلحنا عليه بالثقافة الروحية: العبادات والشعائر والأذكار… مما أقام شبه حواجز بين الدين والدنيا ضدا على تعاليم الإسلام: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (الأنعام) وأعتبر بحق ضربة قاسمة للعلم بمفهومه الحقيقي وللثقافة الإسلامية، وللدين نفسه، حيث أبعدت بعض أحكامه عن الحياة، والحياة عن تعاليم الدين وقيمه، مما أحدث شرخا في العقل الإسلامي الذي تفكك وأعيد تركيبه وصياغته من جديد على مقاس صانعيه بما يحقق التمزق الفكري والانشطار الثقافي، ويساير الفلسفة التربوية الغربية –القائمة على الفلسفة المادية الجدلية- التي أبعدت الموروث الديني عن حياتها السياسية والثقافية والاجتماعية… وهذا الانشطار والازدواجية التعليمية -التي خطط لها الاستعمار الأوربي عندما استعمر البلاد الإسلامية حاملا معه مخطط الغزو الثقافي وكان له ما أراد- إذ جعل الخريجين من الكليات العلمية على اختلاف تخصصاتهم لا يعلمون إلا النزر القليل عن ثقافة الإسلام، مما جعل بعضهم يعيشون شبه مقطوعي الصلات بهويتهم بسبب ضحالة ثقافتهم الإسلامية، ونحن لا ننتقص من أهمية هؤلاء الخريجين أو ما اصطلحنا على تسميته بالأطر العلمية والتقنية في الاستجابة لاحتياجات الأمة وتنميتها عمرانيا دنيويا، ولكن كم كان وضع هؤلاء ونفعهم للأمة والأوطان سيكون أكثر نفعا وإفادة لو تهيأ لهؤلاء أن يتعرفوا على ثقافتهم الإسلامية ويدرسوها وينهلوا من منابعها حيث يظهر بجلاء التجانس الثقافي والتكامل المعرفي، وهذه الظاهرة تعم مناهج التعليم في كثير من البلدان العربية والإسلامية حيث تكاد تكون خالية من أي ثقافة إسلامية.
- انعكاسات الثنائية:
وقد انعكس هذا النموذج المعاصر/تقسيم التعليم إلى ديني تقليدي محصور في نطاق ضيق يشتكي من العزلة والاختناق بسبب انغلاقه وحرمانه من دراسة العلوم الحديثة…/ وعصري حديث –ناسب علمانية الحياة والفكر والثقافة عند الغربيين- على الحياة عندنا نحن المسلمين وطبع واقعنا الراهن العلمي والثقافي والفكري والسياسي، مما أجج الصدام والصراع –لا التنافس- بين موروث وتراث ثقافي وحضارة بقيمها الروحية والمادية معا، وآخر ينتمي إلى العصر الحديث بقيمه المادية الدنيوية. إنه انشطار بين القديم المتجدد، والجديد المعاصر أخذ شكل صراع بين القديم ينتمي إلى “الأنا” والآخر الذي يحسب على الجديد…
مناهج “التعليم الديني”
إن مناهج “التعليم الديني” ومقرراته الدراسية تقوم أساسا على العلوم التي اصطلحنا على تسميتها بالشرعية – واللغوية مع تحفيظ القرآن الكريم وبعض المتون، مع الاستغراق الكامل في النصوص، والوقوف عند الأحكام الفرعية التي تستخلص منها وعند ظواهرها دون البحث عن حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأوليات المطالب للأفراد والأمة، مع المبالغة في رفض كل فكرة وافدة والحذر من الأخذ بشيء مما عليه أتباع الثقافات الأخرى، ودون دراسات مقارنة فقهية والانحصار بذلك في الإسلام الجغرافي… والاعتماد في مقرراته الدراسية على كتب ومراجع تراثية -لها قيمتها العلمية والتراثية باعتبارها تمثل ذاكرة الأمة- والتي تختصر أحيانا “بالكتاب المقرر” الذي يحتوي على معلومات ترص في الكتب، يعتمدها الطلاب بهدف الحفظ والتذكر، وإعادة ما يحفظونه لاجتياز الامتحانات، سرعان ما يتبدد المحفوظ الذي لا يذكر منه إلا النزر اليسير، يتعامل معها طلاب هذا التعليم من منظور التصديق القلبي والاقتناع المسبق بوجوب أخذ ما فيه على أنه فوق النقاش أو إعمال الفكر بله النقد الموضوعي أو التقويم العلمي، وذلك بسبب الخلط بين المقدس الديني من كتاب الله تعالى وسنة رسوله الصحيحة مما يستوجب التقديس والتعظيم، وبين الفهم البشري للوحي الإلهي والموروث الثقافي الذي أنتجه الفكر الإنساني.
هذا على مستوى المقررات الدراسية بكثير من الإيجاز أما على مستوى طرق تقديم المقررات الدراسية وأساليب تبليغها فالظاهرة الغالبة اعتماد أساليب التلقين والاستظهار في غالبية مواد “التعليم الديني” بمختلف أسلاكه وأنواعه مما يعتبر نوعا من التفرد يمارسه الأستاذ في الفصل الدراسي ويجعل العملية التعليمية تذهب في اتجاه واحد من الأستاذ إلى الطالب الذي يستمع إلى ما يقوله الأستاذ بنوع من الفتور باعتبار أنه لا يشارك ولا يناقش أعني أنه لا يعمل فكره فيما يلقن، وبالتالي لا يساعده التلقين على اكتساب التفكير النقدي ومهارات الحوار ولا الصيغ العلمية في النظر إلى الأمور في حياته كلها، والطالب في أحسن الأحوال يحفظ دون أن يستوعب ويتمثل ما يدرسه الاستيعاب والتمثل الضروريين ويستظهر الإجابات التي تمرره في الامتحانات دون أن تتحول المعارف والمعلومات إلى خلايا علمية فكرية تدخل في نسيج عقله، وتصبح معارف وقيما وضوابط تتشربها نفسه وتستقر في عقله وتتحول إلى مثل عليا يمارسها في حياته اليومية، والتلقين الذي يطبع سلوك المتلقي بالامتثال والطاعة من خلال الإنصات، يكون الطالب الانفعالي الذي يتعامل مع من حوله من أفراد وجماعات بطريقة انفعالية، مما يحول بينه وبين التمرس بالسيطرة على شؤونه ومصيره.
ونزعة التلقي التي تترسب في أعماق طلاب التعليم الديني بسبب أساليب التلقين يتولد عنها الاعتقاد بأن العلوم الدينية والطبيعية استكملت نموها ووجودها حتى لا زيادة بعدها لمستزيد مما يجعلها جامدة بعيدة عن كل إخصاب وإثراء، بينما العلوم تنمو وتزدهر بالحرية وفسح المجال أمام العقول الدارسة لها بطرح المسائل والقضايا، مما ينبغي معه في عصر الانفجار المعرفي اعتماد مناهج وطرق تربوية تقوم على علم النفس والتواصل والبحث –مع مراعاة خصوصية المواد الدراسية– تهدف إلى تنمية تفكير الطلاب تنمية عقلية وبحثية بحيث يمتلكون قدرة ومهارات على البحث عن المعرفة بأنفسهم وكيفية توظيفها بعد الانتقاء والاختيار، واستخدام أجهزة الحواسب الآلية والتقنيات الإعلامية الجديدة… في كل العمليات التربوية النقلية منها والعقلية.
تأسيسا على ما قلناه ونحن نعيد النظر في منظومتنا فيما اصطلح عليه “بالتعليم الديني” اقترح أن يسمى هذا التعليم “بالتعليم الأصيل” باعتباره التعليم الذي عرف عند المغاربة قديما وحديثا وكان يقوم على الثقافة الإسلامية ويعبر عن روح الإسلام حيث كان التعليم الذي يجمع بين تأديب النفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتكوين المهارات بمختلف أنواع المعارف والعلوم النقلية منها والعقلية الكونية وكان يتخذ من الإسلام معينا كمادته وعلومه مع التركيز على العلوم التي اصطلح عليها الفقهاء بالعلوم الشرعية دون إغفال ما من شأنه أن ينمي فكر الطالب ويفسح آفاق المعارف أمامه.
كما أن مقرراته الدراسية يجب أن يراعى فيها ما وقعت الإشارة إليه في ثنايا هذا الحديث، ومثله في ذلك مناهج التدريس والتواصل، والله تعالى من وراء القصد.
والسلام.

العلامة عبد الحي عمور

—————-
رئيس المجلس العلمي المحلي لفاس

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>