الموثوقية أبرز خصائص المنهجية الإسلامية (3)


تقوم المنهجية الإسلامية في ثوابتها على القطعية واليقين، وفي وجزئياتها ومتغيراتها على الظن الغالب، وبهذا برئت المنهجية الإسلام من الأوهام والشكوك، وقام على الحقائق والموثوقية.
وإذا كان محور “المنهج” في الإسلام بصفة عامة هو “النص” قرآنا وسنة، فقد حظي هذا النص بعناية لا مثيل لها في عالم النصوص الدينية وغير الدينية في تاريخ البشرية.
- موثوقية النص الإسلامي:
النص الشرعي الذي يعتد كمحور معياري لتصرفات الأمة وحركتها هو النص الصحيح الصريح، ويعرف ذلك بعملية دقيقة مجهدة، تطلبت العناية والبحث في جانبين رئيسيين:
الأول: جانب الثبوت لتحقيق الموثوقية، والثاني: جانب التفسير وبيان الدلالة للتأكد من صحة الفهم، وسيكون بحثنا في هذا المقال في جانب الثبوت.
- قطعية تواتر النص القرآني ومسألة الموثوقية:
ففي جانب القرآن أقول: لقد تحققت الأمة وحققت في ذات الوقت “التواتر” في نقل النص القرآني وجعلته معيارا للتفريق بين ما هو قرآن معصوم محفوظ، وما ليس قرآنا، والتواتر كما هو معلوم أحد سبل تحصيل اليقين وحصوله، حتى إن العلامة ابن عاشور يرى أن التواتر القرآني أمر مفروغ منه، وما ذكره ابن الجزري في طيبة النشر من أركان أو ضوابط في هذا السياق ليست إنما عي في غير المتواتر، يقول ابن الجزري:
فكل موافق وجه نحو.. وكان للرسم احتمالاً يحوي.
وصح إسناداً هو القرآن.. فهذه الثلاثة الأركان.
وحيثما يختل ركن أثبت.. شذوذه لو أنه في السبعة.
فابن عاشور يرى أن هذه شروط في غير المتواتر، أما المتواتر فلا يحتاج إلى شروط وقد قال في ذلك: “هذه الشروط الثلاثة هي شروط قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر، فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف عليه”، وقد نص على اشتراط التواتر جمع من العلماء واعتبروا أن: “عدم اشتراط التواتر في ثبوت القرآن، قول حادث لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم ولم يخالف من المتأخرين إلا مكي وتبعه بعض المتأخرين، وقالوا لا يقدح في ثبوت التواتر اختلاف القراءة فقد تتواتر القراءة عند قوم دون قوم”.
وقد تحققت الأمة من موثوقية النص القرآني، حيث نقلته الأجيال بالتواتر المفيد للقطع واليقين، وقد ساق ابن الجزري في كتابه “النشر” ألف طريق في أسانيد القرآن، ومن اليقيني أن هؤلاء نقلوا عن ألوف، عن ألوف بسند متصل إلى النبي ، ولم يتحقق لأي كتاب ولا لأي أمة من صحة المصدر وسلامة النقل وموثوقية الرواة مثل ما توفر للكتاب الكريم، تلك هي موثوقية النص القرآني.
- الموثوقية معلم أساس في نقل السنة الشريفة:
وقد تجلت كذلك معاني الموثوقية كأحد معالم “المنهجية الإسلامية” في نقل جانب السنة المطهرة، والسنة الشريفة هي المبينة للقرآن والشارحة له لفظا وتطبيقا، وشأن التوثيق في نقلها يفوق الوصف، فقد كان الرواة في الزمن الأول زمن الصحب الكرام أمناء للغاية القصوى في النقل، وذلك لقوة إيمانهم، وصفاء أذهانهم وشدة حرصهم على الدين، وقد تجلت معاني العدالة فيهم ووصفهم القرآن بأجل الصفات التي ترتفع معها أي نقيصة أو تهمة، فأمِنَت الأمة بذلك من خطر الدس والتدليس في المرحلة الأهم “مرحلة التلقي والنقل”، فلما وقعت الفتن ورق إيمان الناس، وظهرت بعض البدع ألهم الله تعالى الأمة منهجا لتحقيق موثوقية النصوص النبوية الشريفة، لضمان الصحة وصفاء الشرع، ففي حلية الأولياء عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، قَالَ: “كَانُوا لا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَنَنْظُرَ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَنَأْخُذَ حَدِيثَهُمْ، وَإِلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلا نَأْخُذَ حَدِيثَهُمْ، وشدد النقلة ودققوا في الناقل والمنقول، حتى لا يقول من شاء ما شاء، فامتازت الأمة المسلمة بالأسانيد صحة واتصالا.
- أدوات علمية لتحقيق الموثوقية:
وتطور الأمر في التدقيق في طلب الموثوقية إلى اختراع وإبداع جملة من الفنون والعلوم الدقيقة التي وزنت بها الروايات والرواة، لفظا ومعنى، سندا ومتنا، فعرف علم الجرح والتعديل المتعلق برجال الأسانيد، وعلم علل الحديث، وعلم أسباب الورود، ثم شروح الأحاديث، وسائر علوم المصطلح التي ذكرها ابن الصلاح في المقدمة، ووسعها وزاد عليها السيوطي في التدريب، فغدا رجال الحديث ورواته كلهم معروفين غير مجاهيل، ورفضت كل رواية عن مجهول، أو كذاب.
وصُنِّفت التصانيف فيما صح عنه ، كما صُنِّف أخرى في الضعيف والموضوع، وأخرج العلماء كذلك مصنفات تعنى –غالبا- بأقوال الصحابة والتابعين كمصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، وعلي بن الجعد وغيرهم.
ثم توفرت الأسانيد الصحيحة لكتب الحديث، فعالم الحديث اليوم له سند متصل إلى أصحابها ومنهم إلى رسول الله .
وخلاصة القول:
- أن الوحي المعصوم يمتاز بالموثوقية الكاملة في نقله بلا أدنى ريب، ولا عبرة بحملات التشكيك المعاصرة التي تريد هدم معالم المنهجية الإسلامية القائمة على الحقيقة.
- انعكست المنهجية الإسلامية القائمة على الاستيثاق على عقلية المسلمين، فأصبحت العقلية المسلمة لا تقبل الأوهام، ولا تَبنِي على الشكوك والتخرصات، إذ التثبت أحد خصائص قولها وفكرها وأحكامها.
- أنتجت الموثوقية حالة من “الطمأنينة” و”اليقين” جعلت الأمة في تاريخها الحضاري واثقة في نفسها، موقنة برسالتها، ثابتة الخطى في حركتها، حيث اطمأنت أنها صاحبة الحق المطلق.
- ينبغي توجيه الأمة وهي في مسيرتها نحو النهوض أن تعتمد منهجية التثبت والتوثيق والبناء على الحقائق، ونبذ الأوهام، ووزن الرجال بميزان العدالة والضبط، في عصر نطق فيه الرويبضة، وتصدر فيه من لا خلاق لهم، وبخاصة في مجالات العلم والثقافة والتوجيه.

د. أحمد محمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>