المنهجية في الإسلام والبناء الحضاري الحياة الإسلامية الأولى حقبة المنهجية تأصيلا وتطبيقا (2) 1


في المقال الأول من سلسلة قضية المنهج والبناء الحضاري الإسلامي، بينا أن المنهجية الإسلامية هي إحدى تجليات الحكمة الإلهية في الكون والحياة، وفي التشريع والتوجيه، واستمرارا في الحديث عن المنهاجية يأتي هذا المقال لبيان المنهاجية في الحياة الإسلامية الأولى.
أولا : منهج التلقي والتفاعل مع الوحي تعلما وتخلقا وتبليغا :
كانت المنهجية هي السمة المميزة للحياة الإسلامية الأولى التي زكاها الرسول الكريم بقوله الشريف: «خير الناس قرني» متفق عليه، فلم تكن تلك المرحلة المباركة في التاريخ حياة بداوة أو عشوائية كما يتصورها البعض ممن دونوا التاريخ وتناولوا أحداث الإسلام الأولى، إنما كانت مرحلة تأسيس لاقتداء ممتد حتى نهاية التاريخ، يؤكد ذلك نصان شريفان؛
- الأول قوله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة (الأحزاب :21).
- والثاني قوله : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»(رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح).
وتكمن هذه الخيرية في كون القرآن الكريم يتنزل أرتالا يوجه ويصحح، ويعاتب ويشرع، مع وجود المعصوم الذي هو النهاية في القدوة، فهو أتقى الناس وأخشاهم لله جل وعلا وأعلمهم بدينه، ثم توفرت نفوس مُحِبة مشرقة تميزت بمنهج في التلقي والتفاعل لم يتوفر لمن جاء بعدهم بذات الدرجة، مع ما منح الله تعالى لهؤلاء الصحب الكرام من صفات أهلتهم لأن يكونوا جيلا فريدا كما وصفهم سيد قطب رحمه الله تعالى، وقد روى ابن عبد البر بسنده: “كَانَ الْحَسَنُ فِي مَجْلِسٍ فَذُكِرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: “إِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ”.
كل هذا يؤكد معنى الكمال في الحياة الأولى، وأبرز تلك المعاني هي الكمال في المنهج الذي هو في الأصل سمة الإسلام كما ذكرنا آنفا.
ثانيا : نفي البداوة وإثبات التحضر والمدنية عن الحياة الإسلامية الأولى :
قال الكتاني في التراتيب الإدراية: “وقد وقعت لبعض الأعلام فلتات إن لم نقل سقطات وهفوات حتى إن الولي ابن خلدون قال في مقدمة العبر في مواضع: إن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضي أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما نقلوه عن صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا رجعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين هـ… ونحو هذه العبارات للأمير صديق حسن القنوجي في كتابه: “الحطة في ذكر الصحاح الستة من غير عزوها لابن خلدون”.
ثالثا : أسباب تفوق الجيل الأول من الصحابة :
يقول الكتاني: “ولكن من واصل ليله بنهاره واطلع وطالع بالدقة وحسن الروية يجد أن المدنية وأسباب الرقي الحقيقي التي وصل إليها العصر النبوي الإسلامي في عشر سنوات من حيث العلم والكتابة والتربية، وقوة الجامعة وعظيم الاتحاد وتنشيط الناشئة، وما قدر عليه رجال ذلك العهد الطاهر وما أتوه به من الأعمال واستولوا عليه من الممالك، وما بثوه من حسن الدعوة وبليغ الحكمة ومتمكن الموعظة لم تبلغها أمة من الأمم ولا دولة من الدول في مئات من السنين، بل جميع ما وجد من ذلك إلى هذا الحين عند سائر الأمم كلها على مباني تلك الأسس الضخمة الإسلامية قام ونشأ، فلولا تلك الصروح الهائلة والعقول الكبيرة وما بثوه من العلوم، وماأنجزوه من الأعمال المخلدة الذكر لما استطاعت المدنيات المحدثة أن تنهض لما له نهضت وارتقت. أحدق ببصرك وبصيرتك إلى الدور الذي أوجد فيه تجد أن الخراب والدمار والظلم كان قد انبث في كل جهة من جهات العالم من الشرق إلى الغرب، فدولة الروم هرمت مع الضعف الذي استولى على ملوكها بمجاوزتهم الحد في الترف والانهماك في اللذات والفتن الداخلية والخارجية، والأمة الفارسية سقطت قوتها بسبب حروبها الطويلة مع الروم مع الفتن الأهلية والشعوب العربية في انحطاط تام وجهل عام. بين هذا الوسط نبعت تلك الشعلة النورية النبوية فأضاءت دفعة من أول وهلة على العالم فأحدثت فيه حركة ونهضة بعد العهد بمثلها في جهة من الجهات، أما في جميع أطراف العالم فقد التأمت تلك الشعلة واستفحلت وعرفت كيف تربي رجالا عظاما لنشر مبادئها الحقة والقيام بالعالم من وهدة السقوط فأولئك الذين كانوا أنفسهم قبل الإسلام لا يعرفون من دنياهم إلا البارحة وتربية الماشية والعيش على أخس بداوة قد انقلبوا بعد الإسلام إلى قواد محنكين، ودهاة وحكماء سياسيين، وعمال أمناء إداريين حتى قال القرافي في الفروق: “أصحاب رسول الله كانوا بحارا في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسيات والعلوم الباطنة والظاهرة” (الكتاني/التراتيب الإدراية: 1/13-14).
أقول إن هذا التفوق الشامل المؤثر لا يتصور إلا في ظل منهجية واضحة المعالم بدءا من الاعتقاد وانتهاء بالآداب والسلوك، وفق أنموذج معرفي إسلامي راشد.
يتبع
د. أحمد محمد زايد


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “المنهجية في الإسلام والبناء الحضاري الحياة الإسلامية الأولى حقبة المنهجية تأصيلا وتطبيقا (2)

  • هاني وادي

    أحسنت يا دكتور ..وبارك الله في جهودكم … ولي ملاحظة قصيرة هي قصر الحلقة الثانية عن الأولى …رغم أن الموضوع هام ويحتاج إلى أمثلة ونماذج كثيرة ..والمجلة علمية والمتابعون علماء ..فلا ضير من التطويل الخير مخل ..شكر الله لكم