قراءة في كتاب “الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم” للباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو


أولا: موضوعات الكتاب:
الكتاب الذي بين أيدينا هو للباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو، كتبه أول ما كتبه بالإنجليزية وطبع سنة 1964م بجامعة كيو بطوكيو، ثم قدر الله أن يترجمه الدكتور هلال محمد الجهاد، وتنشره المنظمة العربية للترجمة في طبعته الأولى سنة 2007م فيما يزيد عن 400 صفحة.
بعد مقدمة المترجم ومراجعة الأستاذ فضل الرحمن، تبدأ رحلة القارئ الممتعة في ثنايا الكتاب ليجد صاحبه قد قدمه إليه في مقدمة وتسعة فصول، خاتما إياه بثَبَتٍ تعريفي لمجموعة من المصطلحات المنهجية التي اعتمدها في دراسته.
وعليه، فقد جاء الفصل الأول بعنوان: “علم الدلالة والقرآن”، والثاني بعنوان: “المصطلحات المفتاحية القرآنية في التاريخ”، والثالث بعنوان: “البنية الأساسية للرؤية القرآنية للعالم”، والرابع بعنوان: “الله”، والخامس بعنوان: “العلاقة الوجودية بين الله والإنسان”، والسادس بعنوان: “العلاقة التواصلية بين الله والإنسان: التواصل غير اللغوي”، والسابع بعنوان: ” العلاقة التواصلية بين الله والإنسان: التواصل اللغوي”، والثامن بعنوان: “الجاهلية والإسلام”، والتاسع والأخير عَنْوَنه بقوله: “العلاقة الأخلاقية بين الله والإنسان”.
ثانيا: نظرات حول الكتاب:
كثيرة هي الجهود التي بذلت من قبل المستشرقين في تناولهم للإسلام عامة والقرآن الكريم خاصة إما طعنا أو انتصارا، ولكن يبدو أن الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو قد بذل جهدا عظيما في تأليف هذا الكتاب عن القرآن الكريم وماهية نظرته إلى العالم والوجود، راصدا ذلك من خلال الكشف عن علاقة الإنسان بالله تعالى في القرآن الكريم، ومقتضيات تلك العلاقة وانعكاساتها على تصور العالم والوجود.
وقد استعان في ذلك بمنهج علم الدلالة المعاصر، يقول الباحث: “إن عنوان “علم دلالة القرآن” يوحي أولا بأن العمل سيقوم بصورة أساسية على تطبيقنا منهج التحليل الدلالي أو المفهومي لمادة مستمدة من المعجم القرآني، ومن جانب آخر، فإن هذا سيوحي بأن علم الدلالة سيمثل [...] الوجه المنهجي من عملنا، فيما سيمثل القرآن جانبه المادي”. وذلك من خلال دراسة “المفاهيم الكبرى بشكل تحليلي ومنهجي، أعني تلك المفاهيم التي يبدو أنها كانت ذات دور حاسم في تشكيل الرؤية القرآنية للكون”.
وإضافة “علم الدلالة” إلى “القرآن” وما يفيده من معنى الاختصاص؛ فيه إيماء إلى أن الرجل يريد تحوير علم الدلالة ليصبح مناسبا لأن يتخذ منهجا لدراسة القرآن الكريم، خاصة وأنه جعل الفصل الأول من كتابه للحديث عن علاقة علم الدلالة بالقرآن الكريم ومدى إمكانية دراسته بهذا المنهج، والنتائج المهمة التي يمكن أن نتوصل إليها.
وإنما قلت ذلك لما للرجل من إلمام كبير جدا باللغة العربية ودلالاتها وقواعدها، إلى حد أن شمل إلمامه هذا الشعرَ الجاهلي، وهو واضح في الكتاب؛ خاصة حينما يتناول بعض الألفاظ القرآنية بالدراسة ليكشف عن تطورها الدلالي من العصر الجاهلي إلى عصر الإسلام كاشفا عن معناها في العصر الجاهلي وعما أصبحت عليه بعد مجيء الإسلام مستدلا على ذلك كله بأبيات شعرية من الشعر الجاهلي، والعجيب أنه قد يتعدى ذلك إلى نقد الأبيات الشعرية المستشهَد بها ليكشف حقيقتها أو زيفها بل ونقد الآراء التي تقول بزيف بعض الأبيات وهي مخطئة في ذلك حسب رأي إيزوتسو.
فإذا كان إلمامه بالعربية بلغ هذا الحد، فإنه بلا شك لا يخفى عليه ما تفيده الإضافة في العنوان من الاختصاص، فهو إذن كأنه يتحدث عن علم الدلالة الخاص بالقرآن الكريم بما هو كلام الله تعالى.
ومن هنا ندرك ما لإيزوتسو من احترام كبير لهذا الكتاب العظيم، وقد صرح في كتابه أن دراسته هذه ما هي إلا محاولة لـ”لإسهام بشيء جديد من أجل فهم أفضل لرسالة القرآن لعصره ولنا”.
ومن خلال رصد تطور الألفاظ ما بين العصر الجاهلي وعصر الإسلام –كما أشرت- يكشف لنا إيزوتسو عن نظرة العرب وتصورهم لهذا العالم بما في ذلك الله سبحانه، وأنفسهم هم في العصر الجاهلي، وكيف أصبحت نظرتهم له بعد نزول القرآن الكريم، يقول: “…فكل هذه المصطلحات تقريبا كانت مستعملة بصيغة أو بأخرى في العصر الجاهلي (…) وجاء الإسلام فجمعها معا وضمها كلها في شبكة مفهومية جديدة كليا، (…) وقد أدى هذا التحول في المفاهيم والتبدل الجوهري للقيم الأخلاقية والدينية التي نشأت عنه، إلى إحداث تغير أساسي في تصور العرب للعالم وللوجود الإنساني”.
وهنا يتحدث إيزوتسو عن مصطلحين منهجيين مهمين جدا في دراسته، وهو ما سماه “المعنى الأساسي” و”المعنى العلاقي”؛ فالمعنى الأساسي هو ذلك المعنى الذي تدل عليه الكلمة قبل أن تدخل إلى جهاز مفاهيمي معين وتحتفظ به إذا اقتطعت من أي سياق كان، وأما المعنى العلاقي فهو ذلك المعنى الذي يضاف إلى المعنى الأساسي بعد دخول الكلمة إلى جهاز مفاهيمي معين.
وعليه فإن توشيهيكو حينما يتحدث عن “المعنى الأساسي” فإنه يتحدث عن معنى الكلمة في أصل وضعها؛ بحيث لو جردت من أي سياق فإنها ستحتفظ بهذا المعنى، وحينما يتحدث عن “المعنى العلاقي” فإنه يتحدث عما أصبحت عليه الكلمة في القرآن الكريم بعدما دخلت ضمن شبكته المفهومية.
وعلى ذكر الشبكة المفهومية، فإن إيزوتسو يصور مصطلحات القرآن الكريم على أنها عبارة عن شبكة مفهومية كل نقطة منها تمثل مصطلحا مركزيا -أو “الكلمة المركز” كما سماها- تحيط به مصطلحات ثانوية أخرى تخدمه وتزيده بيانا وإيضاحا، ونفس الأمر بالنسبة للنقطة المجاورة لها التي قد تمثل مصطلحا مركزيا أيضا، بمعنى أن أي مصطلح مركزي في القرآن الكريم قد يكون مركزيا بالنسبة إلى المصطلحات التي تندرج تحته، فرعيا بالنسبة إلى المصطلحات التي يندرج تحتها، فهذه “الكلمات أو المفاهيم لا توجد هكذا ببساطة في القرآن بحيث تكون كل منها معزولة عن الأخرى، بل يتوافق بعضها مع بعض بإحكام، وتستمد معانيها العيانية من نظام العلاقات المحكم بينها، على وجه الدقة، بكلمة أخرى؛ إنها تشكل بين أنفسها مجموعات متنوعة كبيرة أو صغيرة، ثم تترابط هذه المجموعات بدورها بأشكال متنوعة، وبذلك فإنها تؤلف في النهاية مجموعا كليا منظما، وشبكة غاية في التعقيد والتركيب من التداعيات المفهومية”. وبهذا يقرر إيزوتسو أن أي مصطلح في القرآن الكريم لابد من دراسته ضمن مجموعته التي ينتمي إليها ويرتبط بها.
ليصل الباحث من خلال ذلك إلى أن المفهوم المركزي الذي تتفرع عنه جميع المفاهيم القرآنية وترتبط به ارتباطا وثيقا هو مفهوم “الله”؛ بحيث إذا أخذنا القرآن الكريم وحذفنا منه مفهوم “الله”، فإنه لن يبقى للآيات أي معنى على الإطلاق.
من خلال ذلك كله حاول إيزوتسو دراسة العلاقة التي تربط الله تعالى الخالق، بالإنسان المخلوق، وما يقتضيه ذلك من طاعة المخلوق للخالق وإخلاص العبادة له، ليكشف -بناء على ذلك كله- عن الرؤية القرآنية للعالم

محمد أمين الخنشوفي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>