من منهج الإصلاح الدعوي عند الشيخ محمد الغزالي


تقديم:
قد نال المجال الدعوي نصيبا وافرا من اهتمام الداعية الشيخ محمد الغزالي، فعاش للدعوة وعانى من أجلها، وظلت الدعوة شغله الشاغل وهمه الكبير، حتى قال عنه تلميذه وصديقه الدكتور يوسف القرضاوي: “الشيخ الغزالي هو رجل دعوة من الطراز الأول، كانت الدعوة إلى الإسلام لحمته وسداه، ومصبَحه وممساه، وحلم ليله وشغل نهاره، عاش للدعوة، ماضيه وحاضره ومستقبله، فحين يكتب أو يخطب أو يدرس فكل ذلك للدعوة، وإذا هاجم فللدعوة، وإذا دافع فعن الدعوة وإذا انتقد فللدعوة”()، وَهَم الدعوة الذي أثقله هو الذي جعله يسطر كتابه الفريد في هذا الباب «هموم داعية»).
كان الغزالي مهموما بالدعوة يمارسها ويدافع عنها وينظر لها، حتى أمسى مدرسة معاصرة في الدعوة والتجديد، حتى قال عنه الدكتور يوسف القرضاوي:
“والحق.. أننا أمام قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام فذّ من أئمة الفكر والدعوة والتجديد، بل نحن أمام مدرسة متكاملة متميزة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح”().
وَهَم الدعوة هو الذي جعل الغزالي يتأسف على حال الدعوة الاسلامية في هذا العصر حين يقارنها بحال الدعوات الالحادية والشيوعية والصهيونية والصليبية، فشتان بين من يخدم الدعوة الأولى ومن يخدم الدعوات الأخرى، يقول رحمة الله عليه:
“الدعوة إلى الإسلام شأْنها عجيب، في عصرنا الحاضر توجد أنواع من الإعلام تخدم بذكاءٍ ودهاءٍ ألواناً شتى من الإلحاد والانحراف والأجهزة الخادمة للشيوعية والصهيونية والصليبية، بلغت من النجاح حداً كاد يقلب الحق باطلا.. ويجعل النهار ليلا..
أما الإسلام.. فإن الجهود الفردية التي بلغت رسالته من قديم لا تزال تواصل عملها بكلال وقصور.. وأكاد أوقن بأَنه لولا عناية عليا ما بقي للإسلام اسم ولا كتاب. فإن أَجهزة الدعاية الإسلامية وهم كبير.. حتى بعد قيام جامعات كبرى على الاهتمام بعلوم الدعوة وطرائق نشرها”().
المنهج الاصلاحي الدعوي الذي يقدمه الشيخ محمد الغزالي:
ومن أهم تلك الحلول التي يقترحها ما يأتي:

أولا: تكوين الدعاة الصالحين واختيارهم وفق مواصفات تخدم الدعوة ولا تسئ إليها:
لأجل إصلاح المجال الدعوي يركز الشيخ الغزالي على وجوب اتصاف الدعاة بالمواصفات التي تخدم الدعوة الاسلامية، كما يحث على تكوين الدعاة تكوينا علميا رصينا، يقول متحدثا عن ضرورة تكوين الدعاة الأكفاء لما يناط بهم: “نظرت بعيداً عن دار الإسلام، وراقبت زحام الفلسفات والملل التي تتنافس على امتلاك زمام العالم.. فوجدت الإعلاميين أو الدعاة يختارون من أوسع الناس فكراً، وأرقهم خلقاً، وأكثرهم حيلة في ملاقاة الخصوم، وتلقف الشبهات العارضة..
حتى البوذية -وهو دين وثني- رزقت رجالا على حظ خطير من الإيمان والحركة.. لقد طالعت صور الرهبان البوذيين الذين يحرقون أنفسهم في (فيتنام) ليلفتوا الأَنظار إلى ما يصيبهم من اضطهاد.. وعرتني رجفة لجلادة الرجال والنساءِ الذين يفعلون ذلك!
فلما رجعت ببصري إلى ميدان الدعوة في أرض الإسلام غاص قلبي من الكآبة!
كأَنما يختار الدعاة وفق مواصفات تعكر صفو الإسلام وتطيح بحاضره ومستقبله.. وما أنكر أن هناك رجالا في معادنهم نفاسة، وفي مسالكهم عقل ونبل.. بيد أن ندرتهم لاتحل أزمة الدعاة التي تشتد يوماً بعد يوم”().
ويدعو إلى تكوين دعاة مدربين على تبليغ الدعوة ومخلصين في التفاني في خدمتها، فيقول:
“إن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، فالأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموهوبين.. ومن هنا أرى أن سبيل النهضة الناجحة لا يتمهد إلا إذا استطعنا -على عجل- بناء جماعات من الدعاة المدربين البواسل.. ينطلقون في أقطار العالم الإسلامي ليرأبوا صدعه، ويجمعوا شمله، ويمسِّكوه ويبصِّروه لغايته، ويتعهدوا مسيره، ويقوموا عوجه، ويذودوا عنه كيد الخصوم، ومكر الأعداء، وعبث الجهال، وسفاه المفتونين.. فالإسلام أحوج الأديان الآن إلى من يتعلمه على حقيقته النازلة من رب العالمين، ثم يكرس حياته لإنعاش المسلمين به، بعدما سقطوا في غيبوبة طويلة عِلَّتُها الأولى والأخيرة الجهل الطامس البليد.. الإسلام أحوج الأديان إلى الدعاة الذين يغسلون عنه ما التصق به من خرافات، ويُقْصُون من طريقه الحواجز التي شَعَّبَتْ أهله، وقسمتهم طوائف، ومذاهب..”().
ثالثا: ضرورة مصاحبة الداعية للكتاب العزيز في جميع أحواله:
القرآن الكريم هو دستور المسلمين، والداعية يدعو الأمة إلى هذا الدستور، من ثم كان لزاما عليه أن يكون ملازما له في جميع أحواله، فالداعية إلى الله تعالى “صديق لكتابه الكريم، يألف تلاوته، وينتظم في أداء ورده، ويستوحش إذا حجزته عنه شواغل طارئة. والأصل أن يستوعبه كله حفظا وتجويدا، فإن قصر عن تلك الدرجة، فلن يقصر في إدمان مطالعته، واستذكار مواضع الاستشهاد منه.. يجب أن تكون المعاني العلمية للقرآن الكريم جزءًا كبيرا من الحياة العقلية للداعية، تسبح في فكره كما تسبح الكواكب في أجواء الفضاء، ففي رأسه صورة للكون كله كما وصفته آيات القرآن، وفيه تاريخ للأمم البائدة، ولِمَ لقيَتْ مصارعها؟ وفي رأسه أيضا إحصاء لأحوال النفوس وبيان للمطلوب منها، ووعي لشتى التشريعات الموزعة في السور وفقه لأحكامها، وتصور لمشاهد الحشر والنشر، يزاحم صورة الحياة الحاضرة، وحسٌّ بقيام الله على الخلائق كلها.. وكما أن عقل الداعية يمتلئ بهذه المعارف النظرية، فإن قلبه يجب أن ينتعش ببواعث الذكر الميسر له..
فيا دعاة الإسلام في المشارق والمغارب، أدوا حق الله عليكم، وانقلوا الإسلام إلى الأجيال اللاحقة نقيًّا مصفَّى، كما انتقل إليكم عن الأجيال السابقة”().
ثانيا: توفر الداعية على ثقافة واسعة:
لا غرو أن هناك فرقا كبيرا بين العالم والداعية، فالداعية مقامه رفيع، فليس كل عالم يصلح أن يكون داعية، وليس كل إنسان يصلح أن يكون داعية؛ فقد يكون المرء عالِمًا كبيرًا، ولا يكون داعيةً، فالداعية له مؤهلات وخصائص قد لا تتوافر لغيره من العلماء والباحثين وحتى (الأكاديميين)، والدعاة أنفسهم متفاوتون في حظهم مِنْ هذه الخصائص.
ويظن كثير من الناس أن الداعية يكفيه أن يكون دارسا لعلوم الشرع ليكون داعية ناجحا، وهو أمر غير صحيح، فلا بد أن تكون للداعية ثقافة واسعة لأنه يمثل الاسلام ويدافع عن الاسلام، وما جنى على الدعوة والإسلام إلا الدعاة الفاشلون زادهم من المعارف قليل، فكانوا بحق محامين فاشلين في قضية عادلة..
والشيخ الغزالي قبل أن يكون من أهل القول والتنظير هو من اهل الفعل فهو فارس ميادين الفقه والحديث واللغة والأدب (والدعوة تحتاج لصاحب اللسان الفصيح البليغ)، وها هو تلميذه القرضاوي يشهد له بامتلاك ناصية الأدب فيقول عنه: “(الغزالي) حين يكتب أديب مطبوع، ولو انقطع إلى الأدب لبلغ أرفع منازله، ولكان أديبا من طراز حجة الأدب، ونابغة الإسلام “مصطفى صادق الرافعي”، لكنه اختار طريق الدعوة؛ فكان أديبها النابغ، ووهبه الله فصاحة وبيانا، يجذب من يجلس إليه، ويأخذ بمجامع القلوب فتهوي إليه، مشدودة بصدق اللهجة، وروعة الإيمان، ووضوح الأفكار، وجلال ما يعرض من قضايا الإسلام؛ فكانت خطبه ودروسه ملتقى للفكر ومدرسة للدعوة في أي مكان حل به. والغزالي يملك مشاعر مستمعه حين يكون خطيبا، ويوجه عقله حين يكون كاتبا؛ فهو يخطب كما يكتب عذوبة ورشاقة، وخطبه قطع من روائع الأدب”().
ثم يذكر القرضاوي الثقافة الواسعة التي يتسم بها الداعية الغزالي باعتباره من النماذج الفريدة للدعوة في زماننا:
“كان الشيخ الغزالي مثقفا ثقافة واسعة، وفي كتاب اسمه (ثقافة الداعية) ألفته من سنين طويلة ذكرت فيه أن الداعية محتاج إلى ستة أنواع من الثقافات: الثقافة الدينية، بمفرداتها المختلفة: تفسير وحديث وفقه وأصول وغير ذلك، والثقافة الأدبية واللغوية، والشيخ الغزالي كان أديبا من أدباء الأمة.
كما كان لدى الشيخ الغزالي ثقافة تاريخية؛ فكان معنيا بالتاريخ الاسلامي، وثقافة إنسانية عامة وثقافة علمية، هذا بالإضافة إلى ثقافة واقعية؛ فكان موصولا بالواقع وتيارات الحياة المختلفة، وكانت هذه الثقافة الواسعة هي زاده وأداته الثانية بعد كتاب الله عز وجل ().
ثالثا: ترك الأمور المختلف فيها والتعاون على الأمور المتفق عليها:
اشتهر الامام الغزالي بقولته الشهيرة: “لنتعاون فيما اتفقنا عليه.. وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”()، وقد أوردها في كثير من مؤلفاته، وقد أورد في كتابه المفيد “هموم داعية” أمثلة لبعض الناس يجعلون أمورا جزئية سببا لسجالات فارغة تافهة، لا نريد الاطالة في سردها.
ونلاحظ أن العلماء والدعاة المصلحين يحاولون ألا يثيروا الخلافات القديمة، ومن ذلك في عصرنا: باب الأسماء والصفات أو في المسائل الفقهية الخلافية باعتبار أنه لكل فريق أدلته وأن الإغراق في هذه المسائل وتفريعاتها كان أحد أسباب انحطاط الأمة وأن المعركة الكبرى هي المعركة مع الحضارة الغربية و الحفاظ على المجتمع الإسلامي والدفاع عن قيم الإسلام النبيلة التي جاءت رحمة للبشرية كلها.
رابعا: عدم التنقيص من قدر الدعاة ولو كانوا مخالفين في المنهج والمذهب:
يعاني الدعاة المصلحون في عصرنا من ظلم ذوي القربى من أبناء جلدتهم من شباب لا يفقهون الدين بشموليته، يقول الشيخ الغزالي:
“وفي عصرنا هذا ظهر فتيان سوء يتطاولون على أئمة الفقه باسم الدفاع عن الحديث النبوي .. مع أن الفقهاء ما حادوا عن السنة.. ولا استهانوا بحديث صحت نسبته وسلم متنه.. وكل ما فعلوه أنهم اكتشفوا عللا في بعض المرويات فردوها وفق المنهج العلمي المدروس.. وأرشدوا الأمة الى ما هو اصدق قيلا وأهدى سبيلا”().
فوجب على المسلمين أن لا يقبلوا الطعن في دعاتهم وعلمائهم تحت مسميات وكلمات حق يراد بها باطل.
خامسا: الدعوة بالحال قبل المقال:
الداعية الموفق الناجح في نظر الغزالي هو “الذي يهدي إلى الحق بعمله، وإن لم ينطق بكلمة، لأنه مثلٌ حيٌّ متحرك للمبادئ التي يعتنقها.. وقد شكا الناس في القديم والحديث من دعاة يحسنون القول ويسيئون الفعل! والواقع أن شكوى الناس من هؤلاء يجب أن تسبقها شكوى الأديان والمذاهب منهم؛ لأن تناقض فعلهم وقولهم أخطر شغب يمسُّ قضايا الإيمان، ويصيبها في الصميم، ولا يكفي –لكي يكون المرء قدوة- أن يتظاهر بالصالحات، أو يتجمل للأعين الباحثة، فإن التزوير لا يصلح في هذا الميدان.. ومن ثمَّ نرى لزامًا علينا التوكيد بأن القدوة وحدها وما يبعث على الاقتداء من إعزاز وإعجاب هما السبيل الممهدة لنشر الدعوة في أوسع نطاق..”().
ولنا في الداعية العظيم القدوة الحسنة فكان يدعو بحاله قبل مقاله، قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ().
سادسا: جرأة الداعية في الصدع بالحق:
من المواصفات الأساسية التي تشترط في الداعية أن لا يخاف في الله لومة لائم، وأن لا يداهن أو ينافق، بل يسلك منهج سيد الدعاة الذي إذا رأى منكرا احمر وجهه وعلا صوته كأنه منذر جيش.
لذلك فمما يسجل للداعية الغزالي جرأته البالغة وشجاعته النادرة في بيان حقائق الإسلام، والتي جرت عليه المحن والسجون ولكنه سلك طريق الرسل والدعاة الصادقين ونال احترام وتقدير محبيه وطلبته وأمته، وفي الوقت ذاته آثر الغالبية من الناس الصمت والسكون؛ لأن فيه نجاة حياتهم من هول ما يسمعون في المعتقلات. ولم يكتفِ بعضهم بالصمت المهين بل تطوع بتزيين الباطل لأهل الحكم وتحريف الكلم عن مواضعه، ولن ينسى أحد موقفه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عُقد سنة (1382هـ / 1962م) حيث وقف وحده أمام حشود ضخمة من الحاضرين يدعو إلى استقلال الأمة في تشريعاتها، والتزامها في التزيِّي بما يتفق مع الشرع، وكان لكلام الغزالي وقعه الطيب في نفوس المؤمنين الصامتين في الوقت الذي هاجت فيه أقلام الفتنة، وسلطت سمومها على الشيخ الأعزل فارس الميدان، وخرجت جريدة “الأهرام” عن وقارها وسخرت من الشيخ في استهانة بالغة، لكن الأمة التي ظُن أنها قد استجابت لما يُدبَّر لها خرجت في مظاهرات حاشدة من الجامع الأزهر، وتجمعت عند جريدة الأهرام لتثأر لكرامتها وعقيدتها ولكرامة أحد دعاتها ورموزها، واضطرت جريدة الأهرام إلى تقديم اعتذار”().
هذه إذن بعض الحلول التي يقدمها العلامة الغزالي لإصلاح الساحة الدعوية، وقد خاض الشيخ معارك ضارية على جبهات متعددة لتحقيق هذا الاصلاح المنشود،- فواجه أعداء الإسلام من داخله وخارجه، من ملاحدة ومنصرين وعلمانيين، كما واجه بعض أبناء المسلمين الجهلة بالإسلام، الذين يضرون بالإسلام أبلغ الضرر، من حيث يريدون أن ينفعوه.

د. محمد بوشركة
———————-
تنبيه:
- أصل هذا المقال موضوع شارك به الباحث في ندوة وطنية في موضوع :”الشيخ محمد الغزالي مشروعه الفكر ومنهجه الإصلاحي ” التي نظمها كل من “مختبر مناهج العلوم في الحضارة الإسلامية وتجديد التراث” بوجدة ومجلة “البلاغ الحضاري” وفريق البحث “قضايا البناء الحضاري في تراث الغرب الإسلامي” بكلية ظهر المهراز بفاس، يومي 24 و 25 نونبر 2015 برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة.
- نظرا لطول المقال، فقد استغني عما تضمنه من مصادر ومراجع

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>