قراءة في كتاب – ضبط الـمصطلحات العربية في اللسانيات الحديثة


تعتبر الدراسة المصطلحية من الفروع الحديثة في مجال دراسة النص اللغوي، وقد تعددت مجالات تطبيقاتها وانتقلت من فرع يعنى بالمعجمية والاصطلاحات العلمية إلى فرع في اللسانيات ومناهج تحليل النص، وفي هذا السياق يأتي كتاب الدكتور حسين كنوان: «ضبط المصطلحات العربية في اللسانيات الحديثة» الذي صدر ضمن سلسة كتاب مجلة العربية العدد 132(الرياض- المملكة العربية السعودية)
وقد جاء الكتاب في فصلين مع مقدمة وخاتمة.
فالفصل الأول بعنوان: الدراسة المصطلحية مفهوما ومنهجا
والفصل الثاني تناول: أهمية الصيغ الصرفية في توحيد الاستعمال والربط المعرفي بين العلوم.
واندرج تحت كل فصل جملة قضايا تعالج إشكالات معينة في المجال.
أولا إشكالات الكتاب :
انطلق الدكتور حسين كنوان من مجموعة من التساؤلات والإشكالات التي شغلته في مجال المصطلح، ومن أبرز هذه الإشكالات:
- ما المقصود بالمصطلح ؟ وما الفرق بينه وبين المصطلحية وعلم المصطلح والمعجمية؟
- كيف ينشأ المصطلح ؟ وما هي الضوابط والشروط التي تتحكم في بناء المصطلح ونضجه العلمي؟ وما وظيفته العلمية والإجرائية ضمن النسق العلمي والمعرفي؟
- ما علاقة المصطلح بالدرس اللغوي العربي؟ وما هي الإشكالات التي تعترض عملية إنشاء المصطلح في اللسان العربي؟ وما هي القواعد الكفيلة ببناء المصطلح في الحقل اللساني العربي من داخل منظومة اللسان نفسه؟
ثانيا مضمون الكتاب وقضاياه:
تنوعت دراسات المؤلف للمسألة المصطلحية ويمكن إبراز القضايا الآتية :
أ- تحديد مفهوم المصطلحية وعلم المصطلح:
فقد انطلق من التساؤل عن تحديد مفهوم المصطلح وما يقترب منه أو يتداخل معه من مصطلحات، وهنا استعرض المؤلف بعض التعريفات التي قدمت لمفهوم المصطلح والمصطلحية وعلم المصطلح والمعجمية مثل تعريف علي القاسمي: «المصطلحية( علم) يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية والمصطلحات اللغوية التي تعبر عنها « وتعريف جواد حسني عبد الرحيم:» ليست المصطلحية مجموعة من المصطلحات وحدها، وإن كانت تعبر عنها، ولا هي كذلك علم المصطلح ذاته، وإن كانت جزء منه، فالمصطلحية تستثمر الأولى( أي مجموعة المصطلحات ) تردفها وتنبثق عنها، كما تصب في مجرى الثاني( أي علم المصطلح فتسمه بميسمها فتكون بذلك كمن يعطي شرعية أبوة هذا العلم، إن المصطلحية بهذا التشبيه لتعتبر الجانب المستثمر من علم المصطلح، والمتحقق بقوانين هذا العلم ومبادئه»
وقد أثار هذا الاختلاف بين الدارسين في تحديد المصطلح فِكر المؤلف، فراح يؤصل لذلك من خلال اللسان العربي وقواعده الصرفية، ومحاكمة التعريفين السابقين على ضوء ذلك لينتهي إلى بيان أن لفظ المصطلحية منقول إلى العربية، لذلك لا يفرق البعض بين المصطلحية والمصطلح
ب- أصالة التفكير المصطلحي في العلوم الإسلامية:
يتساءل الدكتور حسين عن حضور التفكير المصطلحي في التراث العلمي الإسلامي فيقول: «هل لهذه الدراسات(المفاهيم = علم المصطلح والمصطلحية) في العلوم الإسلامية من نصيب؟ ألا يمكن القول بأن العلوم الإسلامية، وخاصة علوم الحديث قد أسهمت بحظ وافر في هذا المجال، ذلك أن الضوابط التي وضعها علماء مصطلح الحديث، قد فاقت -وإن كانت متقدمة تاريخيا- الشروط التي وضعها المحدثون لعلم صناعة المصطلح»( ص 24).
يجيب الدكتور حسين في غير ما موطن بأن التراث العلمي للمسلمين زاخر بالتأصيل والتقعيد لاصطلاحات العلوم، « فقد وضع علماء الحديث ضوابط الاصطلاح العامة التي لا تقتصر على ضبط دلالات المصطلحات بتعاريف دقيقة، بل تتعداها إلى ضبط النص(محضن المصطلح) منسوبا إلى قائله»(ص. 22) بل إنه يقرر حقيقة أنه «لا يمكن أن نتناول مفهوم الاصطلاح(المصطلحية) بالدراسة والتحليل في العلوم العربية دون استحضار العلوم الإسلامية عموما وعلم الحديث خصوصا، ذلك لأن هذه العلوم كانت ولا تزال المصدر الأساس لتأسيس، أو تأصيل، أو تطوير دراسة علم المصطلح العربي الإسلامي، لا من حيث احترام دقة الألفاظ، ولا من حيث التقنين الذاتي لهذا العلم، والتنظير له»(ص. 11).
وكما كان علماء الحديث سباقين إلى التأسيس والتأصيل المصطلحي، كان علماء الأصول سباقين إلى وضع الضوابط المنهجية التي سيكون لها أثر في ترابط العلوم الإسلامية ووحدة جهازها المفاهيمي والمنهجي، وفي هذا السياق أيضا أكد وجود «الصلة المتينة على مستوى المنهج بين علوم اللغة العربية الإسلامية وخاصة بين النحو وأصول الفقه» وهي صلة تؤكد في نظره «تداخلا بين هذه العلوم وخاصة على مستوى مصطلحات بعض القضايا والمسائل مثل التنزيل والنسخ والتأويل» وبناء على هذا التعالق دعا أيضا إلى الاستفادة من علم أصول الفقه في تحديد تقنيات التخاطب والعلاقة بين المخاطَب والمخاطِب.(ص.68)
ج- بناء المصطلح : طرق وقواعد:
كيف يتم تأسيس المصطلح ؟ هل هناك فقط عملية إخراج المصطلح واتفاق جماعة عليه ؟ أم أن ظهور المصطلح يمكن أن يكون بالترجمة والتعريب أيضا؟
يرى الكاتب أن تأسيس مصطلح ما داخل علم من العلوم يكون بهذه الطرق الثلاثة:
أولها النقل أو الإخراج إذ الأصل في إنشاء المصطلح «في مجال العربية وعلومها الإسلامية أن ينقل فيها استعمال اللفظ من الدلالة اللغوية العربية إلى الدلالة الاصطلاحية في علم من العلوم، على شرط أن يراعى بينها التناسب بين الدلالة اللغوية والاصطلاحية.( ص.33)
ثانيها الترجمة وهي عملية إعادة كتابة الموضوع بلغة مختلفة ينقل فيها المترجم دلالة اللفظ المصطلح من لغة لأخرى، وهذا النقل تزداد خطورته لأن طبيعة المنقول منه تختلف عن المنقول إليه حضاريا، من حيث القيم والمبادئ والمرامي والأهداف، مما يفرض -كما يقول المؤلف- بإلحاح احْترام حدود معينة للمفاهيم المنقولة، فلا مجال للتناسب ما بين المنقول منه والمنقول إليه كما في(الحالة الأولى).
ثالثها التعريب: وشرطه أن يصاغ في بنيته صياغة عربية وأن تؤدي اللفظة المعربة وظيفتها في الإبانة،(ص.34)
ما الذي يقتضيه تعدد طرق الاصطلاح من إشكالات؟ يجيب المؤلف بأن ذلك يفرض وضع المزيد من الضوابط والتقنينات العامة التي تؤمن عملية الوضع أو النقل، وذلك بتحديد كل العناصر التي يمكن أن يكون لها تأثير ما على توجيه دلالة اللفظ الموضوع إزاء المعنى، أو المنقول من مجال لآخر،..(ص.34) تحديدات تخص المصطَلِح، والمصطَلَح عليه، والمجال، والطريقة.(ص.35)
د- نماذج من الاضطراب المصطلحي في الدرس اللغوي العربي:
أولا- مصطلح الصوت والحرف: حيث لاحظ المؤلف أن الدرس اللغوي العربي لا يزال يشهد على مستوى التقعيد الصوتي اضطرابا في المفاهيم عند المحْدَثين وعدم الاستقرار على الاستعمال الموحد للمصطلح الواحد بل والخروج عن وظيفته الدلالية إذا ما قورن باستعماله عند القدماء ، وللخروج من هذا الإشكال استعرض المؤلف في هذا الصدد تعاريف القدماء للصوت لغوية واصطلاحية، وقد شعر الكاتب أنه لابد في هذا الإشكال من دراسته دراسة تاريخية تساعد على معرفة نشأة المصطلح وما عرفته دلالته من تطور ثم ما يمكن أن يكون لذلك التطور من آثار إيجابية أو سلبية على الموضوع( ص. 49). ووقف في هذا السياق على جهود الخليل وسيبويه، والمبرد وابن السراج وابن دريد ، وابن جني ، والزمخشري وابن يعيش، وابن الجزري والثعالبي، ولحظ أن «كل هؤلاء استعملوا مصطلح الحرف(بدل الصوت)، وهم يدرسون مكونات الكلمة، ورغم أن ابن جني استعمل مصطلح صوت لكنه استعمله باعتباره وسيلة أساسية لإنتاج الحرف… ولا يطلقه إطلاقا اصطلاحيا يعني به الحروف المعجمية كما هو الشأن عند المُحْدثين، إذ اعتادت الدراسات اللغوية (العربية الحديثة) أن تسمي حروف المعجم( أصواتا لغوية) وهذا مما ينبغي إعادة النظر فيه ومناقشته كما يقول المؤلف، (ص. 53).
وينتهي الدكتور حسين كنوان إلى ترجيح مصطلح الحرف على مصطلح الصوت فيقول:» وعليه يبقى المصطلح السليم في هذا المجال هو(الحروف المعجمية) وهو مصطلح سائد بين القدماء: مقابل ما يسمى اليوم الدراسات الصوتية» ومن ثم يدعو إلى «إحياء مصطلح الحرف وسيادته لأنه من باب أسماء الأجناس التي ينتج عن تغيير مصطلحاتها تغيير المفاهيم»( ص. 56)
ثانيا- مصطلح الجملة، والإسناد، والتركيب، والكلم، والقول، هذا نموذج ثان عرضه الكاتب ليبرز من خلاله مسألة الاضطراب المصطلحي في الدرس اللغوي العربي، وأن استعمالها جميعا يدل على عدم نضج المصطلح العلمي، كما يدل على عدم التدقيق العلمي لدى الدارسين والمستعملين لهذه المصطلحات، والتزاما منه بمنهجه في عرض القضايا على محك المناقشة العلمية والتحليل اللغوي والمقارنة والاستنتاج بناء على الاحتكام للقواعد اللسانية الصرفية والدلالية، استعرض المؤلف هذه المصطلحات(الجملة، والإسناد، والتركيب، والكلم، والقول) عارضا دلالاتها المعجمية والاصطلاحية في تراث النحويين العرب ومناقشا أبعادها ومقتضياتها لينتهي إلى ترجيح مصطلح «الكلم» ليكون عنوانا للتراكيب اللغوية المقبولة مستبعدا أن تكون لاصطلاحات: الإسناد، والتركيب، والجملة؛ هذه الوظيفة الاصطلاحية التي يؤديها لفظ «الكلم»(ص.70)
هـ – ضبط المصطلح في الدرس اللغوي(مقترح حلول)
إن تخصص الدكتور حسين گنوان وطول خبرته بالدرس اللغوي العربي في جانبه النحوي (الصرفي) والمعجمي مكنه من الوقوف على إشكالات المصطلحية في هذا الدرس، كما مكنه ذلك من الوقوف أيضا على ما يمكن أن يساعد في حل معضلة فوضى المصطلحات والاضطراب في استعمالها، وذلك باقتراح ضوابط لتأسيس المصطلح وتأصيله وتوحيد استعماله انطلاقا من قواعد الصرف والاشتقاق. ومن أجل تحقيق هذا الغرض عقد الفصل الثاني تحت عنوان: «أهمية الصيغ الصرفية في توحيد الاستعمال الاصطلاحي والربط المعرفي بين العلوم».( ص ص 75 ـ 107)
وقد صرح المؤلف بأن الهم الذي يحركه في هذا الجانب «متعلق بتأهيل اللغة للقيام بأدوارها وتأهيل المثقف للنهوض بإنتاج أنواع المعرفة بمصطلح لغته وبناء أنساق اصطلاحية ذاتية متعالقة مع أنساقها المفهومية» كما كان واعيا بأن المنهج الذي يلزم انتهاجه هو: «العناية بالموجود قبل البحث عن المفقود ، والعناية الحقيقية تستوجب الإحصاء والتتبع حتى تتضح الإمكانات المتوفرة، وتبرز الثغرات المزمنة ، وتلك مهمة فوق طاقة الأفراد بل ومجمعات البحث أحيانا»( ص.75)
ولتحقيق هذا الغرض قام المؤلف بما يلي:
- أولا ضبط دلالات البنيات الصرفية الثلاثة وعلاقاتها بالجذور المعجمية
- ثانيا تحديد وظائف المشتقات الصرفية وعلاقاتها بالتسميات عامة والاصطلاحية خاصة
- ثالثا توضيح صلاحية المشتقات الصرفية لبناء أنساق اصطلاحية ، وذلك بإمكان توظيف بنية مشتقة واحدة للدلالة على مفاهيم متنوعة في علوم مختلفة، وهذا الإمكان يوفره أمران هما:
أ- دلالة الجذور المعجمية في إطار دلالة أبنيتها الثلاثية المصوغة على الشكل المشتق المراد.
ب- تحريك البنيات المشتقة ذاتها بالقدر والكيف اللذين يسمح بهما النظام الصرفي في اللغة العربية»( ص. 75ـ 76)
وفعلا فقد أجاد الكاتب النظر في هذه المقترحات: تمثيلا وتحليلا، تعليلا وتدليلا، تقعيدا وتأصيلا، وعلى الرغم من ذلك -ففي تقديري- لا يزال النظر في مسألة ضبط استعمال المصطلح في حاجة إلى دراسات علمية متنوعة تقوم على الاستقراء والتصنيف والتحليل والتركيب الذي يحتاج إلى تضافر جهود الجيل أفرادا ومؤسسات -كما صرح المؤلف بذلك في بداية الفصل الثاني- حتى يخرج الدرس المصطلحي في العلوم الإسلامية عامة واللسانيات العربية خاصة إلى حيز الوجود العلمي المؤسس على ضوابط لسانية من عمق التراث اللساني العربي الحابل بكل عوامل الأصالة والإبداع والتجديد.

د. الطيب بن المختار الوزاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>