عـيـسـى عـلـيـه الـسـلام : الـمكـانـة ومـشـروعـيـة الاحـتـفـال


نهاية السنة الميلادية ترتبط عند النصارى بميلاد عيسى ، ولذلك يعرف العالم المسيحي استعدادات كبرى لإحياء نهاية السنة الميلادية، كل ذلك في زعمهم احتفاء بعيسى ، فما حقيقة هذا الاحتفال، وقبل ذلك، من هو سيدنا عيسى الذي بعثه الله نبيا ورسولا ؟ وهل حافظ هؤلاء على ما جاء به عيسى من رب العالمين، أم بدلوا وغيروا؟
وبالبيان يتضح المراد؛ لقد أنزل الله تعالى القرآن هدى وبيانا للناس، فيه خبر الماضي والحاضر والمستقبل، فهو الكتاب اليقين، والخبر الصادق من رب العالمين. ومما جاء في القرآن الكريم حديث مستفيض عن عيسى ، وطبيعته ورسالته ونعم الله تعالى عليه.
أولا : مكانة عيسى عليه السلام وأمه في الإسلام :
عرض القرآن الكريم لتفاصيل قصة عيسى من الميلاد إلى النشأة والحياة ثم الرفع.
1 – ولادة الأم مريم صاحبة النشأة الطاهرة العفيفة : وقد ورد ذلك في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (مريم 35-36) فكان من فضل الله على مريم أن حفظها الله من مس الشيطان، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي قال: «ما من ابن آدمَ مولودٌ إلا يمَسّه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان غيرَ مريم وابنها» وفي رواية الإمام مسلم «فيستهل صارخا من نخْسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه» قال أبو هريرة : «واقرأوا إن شئتم: وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم »
2 – إكرام مريم بأن رزقها غلاما بدون أب : بأن نفخ فيها جبريل بإذن ربه، قال تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرا سويا قالت إنيَ أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (مريم 16-18)، وهنا يبرز دور اليهود الذين شككوا في هذه المعجزة الإلهية، بل وتطاولوا على مريم باتهامها في عرضها.
3 – رعاية الله لمريم أثناء الحمل وبعد الولادة: وهو ما يتضح من قوله تعالى: فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا فنادها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساّقطْ عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقرّي عينا (مريم 21-25)، وهذا النص أصل في تفنيد دعاوى النصارى الذين يزعمون بولادة عيسى في أواخر شهر دجنبر وهو شهر من شهور فصل الشتاء في حين أن الميلاد قد تم في فصل الخريف بدليل توجيه مريم للأكل من ثمر النخل، والتمر لا يكتمل طيبه وجنيه إلا في فصل الخريف، ولذلك تنسف هذه الآية دعوى الميلاد في الخامس والعشرين دجنبر من الأساس. وهنا يستشكل الأمر على بعض الناس: كيف يولد بشر بدون أب؟ ومنهم اليهود الذين استغلوا هذا الأمر للطعن في نبوة عيسى . والجواب عن ذلك من البساطة بمكان: لقد آمن اليهود بآدم من غير أب ولا أم، فمن آمن به لزِمه الإيمان بعيسى . وليس غريبا أن يقرن القرآن بين الحالتين في موضع واحد بين آدم وعيسى عليهما السلام وذلك في قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
(آل عمران 58)، وعن ميلاد عيسى قال تعالى: قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك اللهُ يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (آل عمران 47).
4 – بشرية عيسى عليه السلام : لقد عاش عيسى كما يعيش الناس جميعا، يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة في الرد على النصارى حين قالوا ما قالوا، وذلك في قوله تعالى: وقالت النصارى المسيح ابن الله (التوبة 30)، فرد الله عليهم بقوله: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (المائدة 77)
5 – رسالة عيسى عليه السلام: وتتمثل في كونه رسولا لتبليغ رسالة الله، وإعلاء شريعته، فعيسى واحد من الرسل، وهذا ما يبينه قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا (النساء 162). بل إن الله تعالى أنطق عيسى الوليد في مهده حين أنكر اليهود ميلاده بدون أب ليؤكد الوظيفة الموكولة إليه في المستقبل، وظيفة الرسالة والبلاغ، وذلك في قوله تعالى: فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتني الكتاب وجعلني نبيئا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (مريم 28-32).
6 – رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ردا على الزعم بقتله : لقد كذب اليهود حين قالوا إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله فرد الله تعالى مفندا بقوله: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (النساء 156-157). ومن الإفك الذي ظل يتردد صداه عبر التاريخ القديم دعوى قتل اليهود لعيسى التي ظلت الكنيسة تحمّل وزرها لليهود حتى تمت «تبرئتهم» منها في العصر الحاضر، مع أن تلك «التبرئة» ظلت مطمورة في أناجيلهم حتى سعت الكنيسة لاسترضاء اليهود في العصر الحالي، ولو أنهم كلفوا أنفسهم العودة إلى الخبر اليقين وتأملوا في الكتاب المبين لعلموا أن عيسى ، لم تتلطخ بدمه الزكي يدُ اليهود ولا غيرهم، بل رفعه الله إليه.
7 – إنعام الله على عيسى عليه السلام : لقد آثر الحق سبحانه نبيه بمكرمات، منها: إحياء الموتى بإذن ربه، وتكلُّمه في المهد صبيا، وتشريفه بالرسالة، ومنها نفخ الروح في الطين ليغدو طائرا بإذن الله، ومنها إبراء الأصم والأبرص، ومنها إخراج الموتى، ومع كل هذه المعجزات، كذّب اليهود فقالوا هذا سحر مبين (المائدة 112). هذه بعض الجوانب الفضلى من سيرة عيسى ، فهل يبرر هذا الفضل العالي، والمكانة السامية لعيسى ، الاحتفال به في رأس السنة الميلادية؟
ثانيا : مدى مشروعية الاحتفال بميلاد عيسى عليه السلام :
إن مكانة عيسى عند الله تعالى وعند رسول الله مكانة عظيمة، ومكانته تأتي من كونه رسولا، ولأن الله اصطفاه وخصّه بهذه المعجزات الخارقة، ومع ذلك ما ترك لنا رسول الله هديا متّبعا، ولا أوصانا بالاحتفال بميلاد عيسى على الطريقة التي عليها النصارى ومن تبعهم من المسلمين، ولذلك فإن اقتداء بعض المسلمين بالنصارى في الاحتفال بالميلاد ورأس السنة ليس له موجب شرعي، بل يعتبر مخالفة صريحة لأصول الدين، نظرا للاعتبارات التالية:
1 – تلازم الاحتفال بفساد العقيدة : من الأمور المقررة شرعا مخالفة غير المسلمين، في الطاعات والمباحات، فكيف إذا تعلق الأمر بالعقيدة؟ لا شك أن عقيدة النصارى في عيسى عليه السلام ضالة ومنحرفة كما بيناه في ما مضى، ولذلك لا يجوز الاحتفال معهم لفساد الاعتقاد.
2 – الاحتفال معهم نوع من الموالاة لهم: وقد نهى الإسلام عن موالاة المشركين بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولى ببعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (المائدة 53)، قال العلماء : «هذا إذا لم يقصد المسلم الرضا بدينهم، أما إذا قصد فهو كافر مرتد عن دين الإسلام باتفاق أهل العلم» (اقتضاء الصراط المستقيم). ولأن الموالاة لا تتم إلا بعد حصول التشبه فينشأ عن ذلك المحبة ومن ثم تقع الموالاة لأن التشبه نتيجة طبيعية لتعلق القلب بالمتشبه به باطنا، و هي محبة في الباطن يترجمها التشبه في الظاهر، ولذلك يقول النبي : «من تشبه بقوم فهو منهم» (أبو داود وأحمد)، وفي قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما قال المفسرون: «شهود الزور هو حضور أعياد المشركين، فلا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم، ذلك لأن أعيادهم جمعت الشبهة والشهوة والباطل ولا منفعة فيها في الدين وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم فصارت زورا وحضورها شهودها» (اقتضاء الصراط المستقيم ص183).
3 – الاحتفال تقديس وغلو في عيسى عليه السلام : وقد نهى النبي عن المبالغة في إطرائه قياسا على إطراء النصارى لعيسى فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله» (البخاري). والإطراء هو المدح بالباطل، فلو كان أحد أحق بالإطراء لكان رسول الله أحق بذلك، ومع ذلك نهى عنه لما يترتب على ذلك من التقديس والاعتقاد الباطل في الصالحين، فكيف إذا كان إطراء النصارى لعيسى من حيث المنطلق باطلا.
4 – تميز الأمة في أعيادها وأيامها : ومن ذلك اختصاص الأمة بعيدين بدل يومي اللهو واللعب في الجاهلية كما ورد في الحديث، والمعنى أن النبي لم يعترف باليومين اللذين كان يلعب فيهما الناس في الجاهلية، فأبدلهما الله بهما عيدين هما الفطر والأضحى من باب تميز الأمة بخصائصها. ثم إن الأمة اختصت بيوم الجمعة، وذلك في قوله : «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة» (مسلم). والحديث حجة قوية على تميز الأمة بيوم الجمعة، فإذا شارك المسلم اليهود في عيدهم يوم السبت أو النصارى يوم الأحد فقد خالف حديث رسول الله ، وكذلك في عيدهم السنوي.
5 – الأعياد في الإسلام من الشرع والمناسك والمناهج : فقد قال الله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (المائدة 50)، فالعيد كالصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد ومشاركتهم في سائر المناهج، ولذلك تنبه العلماء إلى خطر ذلك وكان منهم فقهاء المالكية، وعلى رأسهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس الذي كان ينهى عن معاونة المشركين في أعيادهم، وقد سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه، كما كره المالكية أن يُهدي المسلم إلى المشرك شيئا في عيده لأن في ذلك تعظيما لشركه وعونا عليه. ومن ذلك أيضا : عدم إجابة الدعوة لأعيادهم، وعدم بيع ما يُستعان به على أعيادهم، وعدم تخصيص أيام عيدهم بأشياء من قبيل الهدايا والحلوى وتبادل التهاني لأنها تهنئة بالسجود للصليب، بل وقد اعتبره بعض الفقهاء أعظم إثما من شرب الخمر وقتل النفس والزنى، ولذلك كانت الأمة مدعوة إلى الاعتزاز بدينها والتميز بأخلاقها وقبل ذلك بالتمسك بعقيدتها، خاصة في زمن تجاوز المشركون كل القيم التي جاء يبشر بها عيسى من قيم السلام والتسامح واحترام النفس البشرية، وهو ما يترجمه واقع التعامل المسيحي واليهودي مع أمة الإسلام، فهل من مذَّكِر؟

د كمال الدين رحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>