نحو تحديد منهجي لعلم السيرة النبوية الكاملة (*)


1 . حد علم السيرة النبوية الكاملة

تعريف المفردات :
أولًا: الحدُّ
لغة: المنع، ومنه: الحدودُ؛ لأنها تمنع من معاودة الذنب، والإحداد للمرأة؛ لأنه يمنعها مما كان مباحًا لها قبله؛ وسُمِّي التعريف حدًّا لأنه يمنع ما دخل فيه من الخروج، ويمنع ما خرج عنه من الدخول (1).
والحدُّ اصطلاحًا: هو الوصف المحيط بمعناه المميز له عن غيره (2)، أو هو اللفظ المفسر على وجه يجمع ويمنع (3).
ويُسَمَّى عند بعضهم بأسماء منها: القول الشارح، أو التعريف.
فحدُّ علم السيرة يراد به : القول المحيط بقضايا العلم وبحوثه، على وجهٍ يجمع كلَّ ما يدخل فيه، ويَمنع التباسَ بحوث غيره به، بحيثُ لا يشتبه علم السيرة بعلمٍ آخَرَ.
ثانيًا: العلمُ
- اصطلاحًا هو: «نقل صورة المعلوم من الخارج، وإثباتها في النفس» (4).
1 – وقد يُطلَقُ العلمُ ويراد به إدراك الشيء على ما هو به في الواقع، ويمكن تعريفه بالتمثيل، فيقال: إدراك البصيرة المشابه لإدراكِ الباصرة ِ(5).
فإن كان الإدراك مطابقًا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح، وإلا كان بضدِّهِ.
2 – وقد يطلق العلم ويراد به الظن الغالب، وهو ما تبلغه الطاقة من الإدراك، وإن لم يكن يقينًا جازمًا.
وقد قال تعالى: فإن علمتموهن مومنات (الممتحنة: 10) والمراد: غلبة الظن؛ إذ لا سبيلَ إلى القطع واليقين بما في القلوب.
وبناءً على ذلك؛ فإن العلم هو الإدراكُ الحاصل بالدليل، أو الأمارات الظاهرة، الشامل لليقين الجازم، والظن الغالب، وما بينهما مِن رُتب.
3 – وقد يُطلَقُ العلم اصطلاحًا على قواعد ومسائل العلم، وعلى إدراك تلك القواعد والمسائل، وعلى ملكة الإدراك نفسِها (6).
ثالثًا: السيرة
- لغة : الطريقة والهيئة والحالة والسُّنة، قال تعالى: سنعيدها سيرتها الأولى (طه: 20)، أي: هيئتها وحالتها.
وقال خالد بن زهير:
فَلَا تَجزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنتَ سِرْتَـهَا
فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَن يَسِيرُهَا
كما تطلقُ – لغة – على أخبار الأوائل وأحوالهم؛ وسُمِّيتْ كذلك لأنه تسير وتجري بين الناس (7)؛ فهي تُستعمل في الـحِسِّيَّاتِ، كما تُستعمَلُ في المعنوياتِ.
وبذلك تدخل أخلاقُ المرءِ وعاداتُهُ التي دَأَبَ عليها حتى صارت ملازمةً له، سواءً أكانت موهوبةً أم مكتسَبَةً.
يقول الراغب الأصفهاني: «والسيرة الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره غريزيًّا كان أو مكتسَبًا، فيقال: فلان له سيرة حسنة، وسيرة قبيحة» (8).
فالسيرة النبوية -بالمعنى اللغوي- هي: ما كان عليه النبي من طريقة وهيئةٍ، وحالة في شؤون حياته كافَّة.
علم السيرة اصطلاحا:
إلى يوم الناس هذا لا يكاد يُعْثَرُ على تعريفٍ جامعٍ مانِعٍ لعلمِ السيرة النبوية بالمعنى الاصطلاحيِّ؛ وذلك لاتساع مدلول السيرة مِن جهةٍ وتداخلها مع علومٍ متعددة مِن جهة أخرى، ولتفاوُتِ دلالة المصطلح -أحيانًا- بين المصنفين في هذه العلوم الشرعية الشريفة.
ونظرًا لعدم وجود تحديد وقيود للمصطلح من الناحية العلمية، والفنية المتخصصة، فقد تنوعت المصنفات، وتباينت في طريقة تعاملها مع السيرة النبوية، كعلم مستقِلٍّ بذاته، ومتميِّزٍ عن غيره.
ويمكن رصد اتجاهات في هذا الصدد، تساق على النحو التالي:
الاتجاه الأول:
«السَّرد التاريخيُّ لحقبة صدر الإسلام كلِّها، قبل البعثة وبعدها، وما يتعلَّق بحياة النبي وما جرى في حياته، وما كان بعد وفاته، وقسم كبير من خلافة الخلفاء» (9).
وقد اسْتَشْهَد القائلون بهذا المنحى بأن «مَن تَتَبَّعَ كُتبَ الفهارسِ والتراجم عَلِمَ أنَّ هاتين الكلمتين (السيرة)، و(المغازي) كانتا مترادفتين في عُرْفِ المتقدمين، تدلَّانِ على معنًى واحدٍ في الغالب» (10). ومِن المتقدمين مَن صرَّح بهذا المعنى.
يقول الكلاعي (565هـ) – في كتابه الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء – : «وهذا كتابٌ ذهبتُ فيه إلى إيقاع الإقناع، وإمتاع النفوس والأسماع، وذكر نسبه، ومولده، وصفته، ومبعثه، وكثير من خصائصه، وأعلام نبوته ومغازيه، وأيامه مِن لدن مولدِهِ إلى أن استأثر اللهُ به، وقبض روحَهُ الطيِّبةَ، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه…» (11).
ويؤكد هذا المعنى الحسن اليوسيُّ، فيقول: «علم السير وهو العلم الباحث عن أحوال النبي من أول مبعثه إلى أن توفاه الله تعالى» (12) ثم يبين أسباب توسع هذا العلم في رقعته التاريخية، فيقول – في تتمة كلامه – : «قد أدرجوا فيه أحواله