خدمة متن السيرة النبوية وآفاق جمع وترتيب و استخراج سيرة صحيحة شاملة


يمكن أن أعقد صدف هذه المداخلة بالنظرات العامة التالية:
• أن السيرة النبوية لا بد أن تصبح مصدرا أساسا: كتابة ودراسة وتدريسا، فلا علمية ولا منهجية ولا موضوعية بدون ذلك أبدا، كما يجب أن يبنى بها المنهج السليم لدراسة التاريخ الإسلامي وغيره من تواريخ الأمم الأخرى.
• أنه من الواجب جمع وتقميش كل ما يتعلق بمتن السيرة النبوية، من كل مظانها ومصادرها، وذلك لنتمكن من جمع شتاتها بشكل كبير، وتعتبر هذه أولى الخطوات العملية لهذا العمل.
• شرح هذه السيرة النبوية شرحا يتناسب مع مناحي الحياة الحية المتلاحمة قصد تسجيل حركتها، وحمله في قلبها ونفسها تعض عليه بنواجذها سائرة في موكب النور وطريق البناء بكتاب الله وسنة رسول الله شرحا مقترنا بالأمثلة الحية، تجعل أحداث السيرة تمر بقوتها وحقيقتها ووضوحها.
• العناية بمصنفات السيرة النبوية وكتبها وفي مقدمتها “سيرة ابن إسحاق” وغيرها من كتب السيرة الحقيقةٌ بالعناية النقدية؛ لكون تلك الكتب هي المصادر الأم والمراجع الأساس لكل مَن صنف بعدهها في السيرة النبوية، وتكون تلك العناية بتوثيقها وتحقيق نصوصها ومقابلة أصولها وتخريجها، لأن ما تميزت به مصنفات الحديث النبوي الشريف مِن تتبع أسانيدها، والمفاضلة بينها، والترجمة لأهلها، ينبغي أن يتناول أيضا كتب المغازي والسير، لافتقارها إلى مثل ذلك العمل العظيم، فذلك المنهج النقدي الكبير كفيل بدفع كل الشبهات والانتقادات عن علم السيرة، ورد الاعتبار إليها.
• أنه لا بد من استخراج دلالة السيرة النبوية في الاصطلاح على نحو مخترع، وتوجيه مصطلحها في كتب الفهارس المعتنية بتعريف العلوم؛ ليأخذ مكانه الجديد على نحو أوسع مما كان.
• إبراز وجوه استحقاق علم السيرة أن يستقل عن علم الحديث من جهة الموضوع، وذلك من نفس كلام أهل السير، بتفصيلٍ علمي لما أجمل منه.
• اعتبار تطبيق منهج النقد على مرويات السيرة النبوية ضرورةً شرعية وعلمية.
• فصل الروايات المخرجة في الصحيحين مع الروايات الصحيحة التي ميزتها من بعض الكتب، كسيرة ابن هشام، ومغازي الزهري، وسنن الترمذي وغيرها.
• فصل الروايات الضعيفة.
• فصل الروايات التي تصلح للاستشهاد كلا على حدة.
• تقسم المرويات حسب مراحل السيرة.
• تتبع المرويات قصد سد النقص واستدراك الفائت بطريقة شمولية.
• اعتماد طريقة المقارنة بين الروايات التي وردت عن حادث معين أو تنقل كلاما نبويا، وتتم المقارنة عادة بين سلاسل الأسانيد، ثم بين المتون للخبر الواحد، كما تتم المقارنة بين روايات عدد من الصحابة، والمقارنة بين روايات المحدث الواحد في أزمنة مختلفة، والمقارنة بين مرويات عدد من التلاميذ لشيخ واحد، وبين رواية المحدث ورواية أقرانه، والمقارنة بين الكتاب والمذاكرة، وبين الكتاب والكتاب(1)، قصد تمييز الكلام المدرج ونسبته إلى قائله(2)، وذلك تماما كما يقوم به المحدثون، وبذلك تتميز ألفاظ رسول الله عن ألفاظ الشراح والمجتهدين التي تمثل فهمهم واستنباطهم من النص(3).
• عند تعدد الروايات في الواقعة الواحدة يجب استبعاد كل رواية تعارض أصول الإسلام العامة، مثل قصة الغرانيق، حيث لا يوجد في الصحيحين عنها شيء.
• إذا تعارضت الروايات ويتعذر الجمع بينهما فالواجب إثبات الرواية الأقوى سندا وإسقاط الروايات الضعيفة الأخرى، ومن أمثلة ذلك الخلاف في عدد المسلمين الذين شاركوا في غزوة الخندق ففي صحيح البخاري أن عددهم ألف وعند ابن إسحاق ثلاثة آلاف والصحيح هو ما في البخاري، ومن أمثلة ذلك أيضا قصة هجرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة.
• ما جاء في كتب الحديث الصحيحة من روايات للسيرة مقدم على ما جاء في كتب المغازي.
• لا بأس بعد سوق الأحداث المتعلقة بالسيرة النبوية أن نقيس عليها أحداث العصر، فهي وحي وتشريع، ولا أحد يجادل في أن الوحي صالح لكل زمان ومكان.
• أن السيرة النبوية شأنها شأن بقية العلوم الشرعية، فلا بد عند دراستها من اعتبار المآل، بل هذا الاعتبار في السيرة أولى، لأنها هي التطبيق العملي للإسلام، والأنموذج الأمثل، والطريق الأعدل لتطبيق الوحي المنزل، وعليه فإنها مرجع أساسي من مراجع الاستنباط، وموضوع الاعتماد، فهي قد احتوت الأحكام، والمقاصد، والتطبيقات، والفوائد.
• أن تعمل المؤسسات الرسمية والجهات الحكومية على استصدار قرارات دولية أممية تجرم المساس بمصادر السيرة وصاحبها، وذلك سدا للطريق على المسيئين والمندسين الذين يعملون جاهدين على التنقيص من شخص رسول الله ودعوته.
بهذا نكون قد أنشأنا أفقا لجمع متن متكامل لسيرة رسول الله ، نحدد فيه المصادر والمراجع المعتمدة والأصلية، ثم نتحول إلى الجمع والتقميش، ثم نعرج على مرحلة الدراسة والتنقيح، ثم مرحلة التحري والتثبت والتصحيح، بعد ذلك نتحول إلى مرحلة التحرير والتثبيت، وأخيرا مرحلة التوقف لاستنباط العبر، والدروس، والحكم، والأحكام.
هذا المنهج السليم الذي يفترض أن تكتب به السيرة، يجب أن يصبح نموذجا ونبراسا يكون عليه الاعتماد في قضية كتابة وتفسير التاريخ بشكل عام، لتجنب الوقوع في التيه، أو الاعتماد على رؤى وتحاليل أدخلتنا فيها التفاسير الفجة السطحية، والتي ما زالت التعديلات، والترقيعات، والتحسينات، والتجميلات تدخل عليها، ولا تزيدها إلا بعدا وتشويها، وصدق الله القائل في كتابه: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (الأنبياء : 18).

الدكتور المنصف لكريسي (أستاذ بجامعة القاضي عياض بمراكش)
—————
1 – انظر: مقدمة كتاب التمييز مرجع سابق لمحمد مصطفى الأعظمي ص:32 وما بعدها.
2 – أنظر: توضيح الأفكار للصنعاني 2/54 وتدريب الراوي للسيوطي 1/269.
3 – أنظر: مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الإخباريين لأكرم ضياء العمري مرجع سابق ص:11.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>