الجلسة الخامسة : أفق خدمة التيسير والتقريب للسيرة النبوية


الأعمال الدرامية في خدمة السيرة النبوية: رؤية مستقبلية
تضمن البحث ثلاث مقدمات : عرضت المقدمة الأولى إلى عناية المسلمين بالسيرة النبوية قديما وحديثا، انتهاء بجهود الأدباء في هذا المجال. وتضمنت المقدمة الثانية أهمية الإعلام عبر التاريخ، والإعلام الإسلامي وبعض شروطه بخاصة. بينما تناولت المقدمة الثالثة أهمية الأعمال الدرامية في تشكيل الرأي العام.
أما المبحث الأول، وعنوانه: في سبيل بناء الرؤية المستقبلية لفن درامي ملتزم، فقد جاء قراءة في المنجز الدرامي الغربي، وقد بين هذا المطلب كيف اعتمدت السينما الغربية، في ترسيخ مفاهيم المركزية الغربية، على تراثها الديني، الإنجيل والتوراة، ومنه استقت أعماله الضخمة، مثل شريط : (الوصايا العشر)، و(يوسف الصديق)، و(آدم وحواء) وغيرها.
وأما المبحث الثاني فقد جاء استكمالا للمبحث الأول، ولكن بتناول منجزات السينما العربية والإسلامية في مجال السيرة النبوية، بدءا بشريط (ظهور الإسلام) الذي أنتج عام 1959، عن قصة طه حسين (الوعد الحق)، وصولا إلى شريط مصطفى العقاد المشهور: (الرسالة) الذي ظهر في نسختين: عربية وإنجليزية. وقد بين هذا المطلب بعض جوانب التوفيق والإخفاق في هذا المنجز الدرامي، فمن مظاهر التوفيق السعي إلى عدم تشخيص النبي ، لا صورة ولا صوتا ولا ظلا، وكذلك الشأن بالنسبة للخلفاء الراشدين وسائر الصحابة العشرة. وكذلك الالتزام بالواقع التاريخي الحقيقي للسيرة. ومن جوانب الإخفاق بعض مظاهر الخيال المقترن بالكذب، مثل ما نسب للصحابي حنظلة ، في شريط: (فجرالإسلام)..
هذا وقد عمد المبحث إلى عقد موازنة بين بعض الأشرطة الإسلامية والغربية التي تناولت موضوعا واحدا، مثل قصة يوسف ، مبينا جوانب التوفيق والإخلال في كل منها.
أما المبحث الثالث فقد تناول الطريق إلى بناء دراما مستقبلية في السيرة النبوية.
لا بد من الإشارة في البداية إلى أن أساس كثير من الأعمال الدرامية قام على أعمال راوائية ومسرحية. وقد حظيت سيرة رسول الله بأن صيغت ــ كليا أو جزئيا ــ في أعمال روائية أو مسرحية. ولكن قبل ذلك كانت هناك العناية الأدبية بسيرة الرسول ، لا عند المسلمين فقط، بل عند سواهم من الغربيين والشرقيين على السواء.
وتأسيسا على ما سبق، فإن الخطوة الأولى في هذا الطريق هو نقل السيرة النبوية إلى أعمال أدبية، روائية أو مسرحية، تكون مرتكزا لذوي الاختصاص من أهل الإنتاج سينمائي.
وقد عرض البحث لموضوع الدين والسينما، مبينا أن هناك من يعتبر أن الدين والسينما نقيضان، لكن أليست السينما طريقة للدعوة ونشر الرسالة النبوية – خاصة عندما نتذكر كيف أقبل الأمريكيون على شراء نسخ فيلم الرسالة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لمحاولة معرفة الإسلام وطبيعة رسالته؟
ثم حدد ماهية الفلم الديني، من جهة، وأهميته من جهة أخرى، حيث إنه في سنوات مبكرة جدّاً من تاريخ السينما قام مسيحيون غربيون بمعارضة مفهوم السينما، وتم بالفعل حرق دور عرض في روسيا من بين دول شمال أوروبية أخرى. ولكن مما لا شك فيه أن السينما العالمية انتبهت بصورة مبكرة إلى أهمية السينما في توصيل الرسالة التبشيرية والأفكار الكنيسية بطريقة سهلة وسريعة أكثر منها في الكتب أو باقي الوسائل المتاحة، خاصة بعد أن أعلن علماء تكنولوجيا التعليم أن الصورة الواحدة تعادل أكثر من عشرة آلاف كلمة، والصورة كما يرى المخرج السينمائي الفرنسي (جون لوك غودار) تحتوي على جانبين متعارضين ومتكاملين، هما الجانب الدلالي، أي (ما يقال) والجانب الجمالي، أي ما يتضمنه الخطاب دون قول مباشر، بل هو منغرس في ثنايا الخطاب ورموزه الموحية. وإذا كان النص الأدبي (رواية، قصة) يمكنه أن يدمج متلقيه في تركيبة ملامحه كما تقول جوليا كرستيفا في كتابها (علم النص) فإن السينما يمكن أن تلعب دورا محوريا في توجيه سلوك الأفراد مثلما هي وسيلة فعالة لتوجيه أهدافهم واتجاهاتهم داخل المجتمع.
وهكذا استعرض البحث تجارب غيرنا في مجال إنتاج الدراما الدينية سينمائيا وتلفزيونيا لإدراك الهوة الواسعة التي تفصلنا عن مجاراة الآخرين في رغبتهم وتطلعاتهم نحو التأثير داخل الحدود وخارجها، مما أشرنا إلى بعضه آنفا.
وللأسف ابتعدت السينما العربية مسافة عن مفهوم التوثيق بالصورة والحوار والأدوات الفنية للحدث التاريخي الديني فأسقطت من حساباتها بطولات مهمة في السيرة النبوية كان حريا بها التوقف أمامها طويلا. وظل ما قدمته الشاشة العربية دون المراد بدرجات.
فما السر في عدم إقدام شركات الإنتاج السينمائي على تقديم أفلام دينية للجمهور، ولا سيما الأفلام المستمدة من سيرة رسول الله ، الزاخرة بالمواقف الدرامية؟
يمكننا القول إن تكلفة إنتاج الفيلم الديني توازي أربعة أضعاف إنتاج الفيلم العادي، وميزانية الأفلام العربية هزيلة جدا ولا تسمح بإنتاج أفلام في المستوى المطلوب، والنتاج الطبيعي لذلك أن تكون الأفلام ضعيفة. والوصول إلى العالمية يقتضي مشاركة وتعاونا عربيا مع البلدان المسلمة المتقدمة في الانتاج السينمائي.
ولا بد لنا من القول بأن السينما العالمية (والغربية من ضمنها) لا تتفوّق على العربية في الطاقات والإمكانات الإبداعية الفردية فحسب، بل في جانبها التقني والاقتصادي والآليات التي تحكم العمل وإنتاج الأعمال السينمائية، وإذا رجعنا لفيلم «الرسالة» نجد أن كثيرا من النقاد أشادوا بأن الممثلين عبد الله غيث و منى واصف في النسخة العربية تفوّقا، في كثير من الأحيان، على أداء النجمين العالمين أنتوني كوين وايرين باباس، اللذين مثلا الدور نفسه في النسخة العالمية للفيلم.
ويبقى فيلم «الرسالة» أفضل الأفلام التي تناولت السيرة النبيوية المطهرة. وآخر عمل سينمائي ديني تقدمه السينما العربية، وقد مضي على إنتاجه 40 عاماً تقريبا، ولم تتكرر تجربة إنتاج سينمائي ديني بعده، حيث اقتصر إنتاج الأعمال الدينية على المسلسلات التليفزيونية فقط.
وقد نبه البحث في الأخير إلى أن من شأن استثمار السيرة النبوية في الأعمال الدرامية أن تكون نموذجا رائدا للدبلوماسية الثقافية، التي تعمل، ليس فقط على تصحيح صورة الإسلام تاريخيا، بل على تصحيح تلك الصوِرة واقعيا اليوم، حيث صارت صورة المسلم مقترنة في كثير من بلدان العالم بالإرهاب. ومن هنا تصير العناية بالأعمال الدرامية من هذا المنطلق واجبا شرعيا وضرورة حضارية.

الأستاذ الدكتور حسن الأمراني (أستاذ الأدب العربي والأدب المقارن) والدكتورة اعتماد الأمراني (دكتوراه في الإعلام من بريطانيا، مستشارة في الدبلوماسية الثقافية)

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>