شــؤون صـغـيــرة امرأة… وامرأة…


يلتقطها د. حسن الأمراني

في الفاتح من رمضان المبارك الماضي وصلتني رسالتان من امرأتين، واحدة من امرأة مسلمة أمريكية، وأخرى من امرأة مسلمة مغربية، أي إنها (بنت بلادي) كما يغني عبد الصادق شقارة. الأولى رسالة خاصة على بريدي الشخصي، والثانية على الفايسبوك، أي إنها منشورة للعموم.

كانت الرسالة الأولى، واسم صاحبتها (T.S.N) تذكرني بالله، فنحن في شهر رمضان، وتبث ما في القلب من هموم الأمة الإسلامية، وتتحسر على التباعد القائم بين المسلمين والإسلام.

ونبرة الإيمان القوية التي تعلو الرسالة تكشف عن صاحبتها، فقد مرت بابتلاء عظيم، حيث فقدت بصرها، ثم ابتهلت إلى الله تعالى فرد عليها بصرها، كما حدث ليعقوب : فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا، وهذا ليس من أحاديث الأولين، فأنا أعرف المعنية معرفة شخصية، ووراء قصتها ما يدعو إلى الاعتبار..

وأنقل بعضا من رسالتها: (الحمد لله، بلغنا رمضان وقُـــدِّمت لنا هذه الفرصة القيمة لزرع بذور الخير في قلوب المؤمنين، ليجذبنا في تماسك بالكتاب المبين…

أما الآن فأنا في الغرب وأنت في الشرق (المغرب طبعا بالنسبة لها شرق)، وكشاعر مؤمن أنت تعرف قبل غيرك أن الأمور دائما تقلب، فذكَّــرنا الله تعالى بذلك في كتابه: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فسيعلم الذين ينشرون الشر منقلبهم، أما أين نحن في هذا الحساب؟ فنقول إننا نؤمن ونعمل ونذكر، ولكن هل نحن ننتصر؟ وما الدليل على ذلك؟)

وتشتكي من ثقافة الكراهية التي صارت تهيمن على أمتنا، حتى إنها تخلت عن صلاة الجمعة، إذ تقول: (كيف أصلي وراء إمام يدعو المسلمين إلى قتل المسلمين؟ ألم يقرأ: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار؟ إن شاء الله يتقبل منا أعمالنا ويقوينا في وجه الضلالة).

ولا تريد أن تنهي قولها بالتشاؤم، فتقول: (اطمئن أخي، فـــ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، أرجو أن يكتبنا الله من الذاكرين).

كلمات تزلزل، تصدر عن هذه الأمريكية المسلمة وهي تذكرنا -معشر المسلمين- بما ينبغي أن نقوم به. وما أدري أهي اختارت الآيات السابقة من سورة الشعراء لأنها سعت إلى تذكيري بخاصة لكوني شاعرا، أم إنها وجدت فيها، في هذا الظرف التاريخي بالذات، ما يستنهض الهمم، ويزيح شبح التواكل الذي خيم على الأمة.

ثم لنتأمل هذه الرؤية الثاقبة في تدبر الآيات الكريمة. نحن نؤمن، ونعمل، ونذكر الله كثيرا، ولكن هل انتصرنا للحق، والظلم يحيط بنا من كل جانب، داخليا وخارجيا؟ والسؤال ليس حقيقيا، بقدر ما هو إنكاري، أي إننا لم ننتصر كما أمر ربنا تعالى، بل تواكلنا، وبذلك يكون الإيمان نفسه والعمل الصالح والذكر شعارات لا تجد حقيقتها في أنفسنا، ولولا ذلك لانتصرنا، وقمنا لرد العدوان المسلط علينا، وما تواكلنا، ولا شغلنا أنفسنا بسفاسف الأمور.

هذا بعض ما أثارته في النفس الرسالة الأولى.

وأما الرسالة الثانية فقد تعلقت بموضوع قديم جديد، يثيره من يثيره كلما غفل عن المشاكل الحقيقية للأمة، وسعى إلى خبالها. لقد اقتنصت المرأة المسلمة المغربية حدثا شخصيا، لرجل منتسب للدعوة، وقد شغل الناس بفتاواه، وهو حدث إقباله على الزواج من امرأة رابعة، لتطلق كاتبتنا الرصاص على التعدد، وتسخر منه، وتهنئ المرأة التي وقع عليها الاختيار بأن تكون الزوجة الرابعة بأنها حظيت بربع رجل. هذه الأسطوانة التي عزف عليها المستشرقون منذ القرن التاسع عشر، وتناولها منهم المتغربون في بلادنا ليرددوها في غير ما سأم، وسيرددونها إلى ما شاء الله، رغم أن الآذان مجت سماعها. ولن أخوض في حدود شرعية التعدد وشروطه، كما نطقت بها الآيات الكريمة الأولى من سورة آل عمران، وما قاله المفسرون والفقهاء، فذلك أمر يطول، ولا أريد الخوض في أمور فقهية هي أبعد ما تكون عن تخصصي، وإن كانت -في جانب منها- من المعلوم من الدين بالضرورة. وقد حضرت، في سنوات الطلب الأولى، نقاشا مطولا بين كل من الفيلسوف الدكتور عثمان أمين الذي كان من خصوم التعدد، والعالم الدكتور علي عبد الواحد وافي، الذي كان لا يرى في التعدد بأسا، بل يراه أمرا مشروعا، قام بحجته الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة عبر تاريخها الطويل. وقد حضر هذا النقاش عدد كبير من العلماء، مسلمين وغير مسلمين، من بينهم عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وزيغريد هونكه، ومحمد أسد (ليوبولد فايس)، ومالك بن نبي، وأستاذنا الدكتور عبد السلام الهراس، وغيرهم. ولم يكن الجدل بين الرجلين في مشروعية التعدد، فذلك أمر لا ينكره إلا جاهل أو متنطع، ولكن كان الجدل حول مفهوم العدالة الواردة في قوله تعالى: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، وقوله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل. والقول في هذا يطول.

والعجب من هؤلاء الذين يتعلقون بأمور، هي من الفطرة، فينكرونها، وهم لا ينكرون مظاهر الانحراف السائدة، كالزنا وما إليه. وقد جمعني مرة حديث مع أديب مغربي، فقال: (إنه ليس زنا…إنه بغاء، والبغاء مشروع، لأنه وليد شروط اجتماعية تتعلق بالفقر والقهر..وإنما يحتاج من المشرع المغربي إلى أن ينظم).

والغريب أن هؤلاء يرون في المجتمعات الأخرى، شرقية وغربية، مظاهر يندى لها الجبين، فالمثلية عندهم تدخل في الحرية الشخصية، ومن هنا نراهم يدافعون عنها، وتعدد الأزواج -لا الزوجات- في الصين وما جاورها شيء طبيعي، ما دامت الأعراف تقبل به. ومن الطرائف التي حدثت في جامعة كنت أعمل بها أن صينيا دعا زملاءه من المسلمين إلى حفل عقيقة، فعجبوا وقالوا: كيف يولد لك وأنت لم تغادر إلى بلدك منذ سنوات؟ فقال بكل بساطة: (أخي هناك…!!!)

والخلاصة أننا كنا ننتظر من الكاتبة الفاضلة أن تعالج القضايا الراهنة والملحة في المجتمع المغربي، والمجتمعات العربية، كالكرامة والعدالة المفقودتين، والفقر والأمية المهيمنين على شرائح عريضة من مجتمعاتنا، وما إلى ذلك، ولكن يبدو أن موقفا كهذا مكلف، لما يسببه من ردود فعل رسمية وغير رسمية، وأيسر شيء هو محاولة الانقضاض على بعض من مظاهر الشريعة، حيث حقلها مباح.

إنني، وقد وازنت ما بين هاتين الرسالتين، أتذكر آيتين كريميتن، الأولى قوله تعالى: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، والثانية قوله سبحانه : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، وليختر كل امرئ الصف الذي يريد، فإنه : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>