إلى أن نلتقـي: شيء عن الديمقراطية


الديمقراطية – و ككثير من الأمور والأشياء – سلاح ذو حدين، إذ يمكن أن تكون لصالح الشعوب، كما يمكن أن تكون ضدها، أي بمعنى أنه يمكن أن توظَّف الديمقراطية توظيفا نزيهاً حسناً، فتأتي صناديق الانتخابات بمن يخدم الشعب خدمةً صادقة مخلصة، لارياء فيها ولا سمعة، ولا رشوة ولا محسوبية، ولا تضييق على حريات الناس … وإما أن توظف توظيفا سيئا عن طريق التزوير والتدليس والترهيب، فيأتي أناس – ولا أقول تأتي الصناديق بهم – لاهَمَّ لهم إلا بطونهم وشهواتهم ومصالحهم الخاصة، فيكون ما يكون من النفاق والدجل والكذب والزور والرشوة والمحسوبية، والتضييق على حريات الناس وخنقها تحت أسماء ولافتات وشعارات عديدة.

وإنه لمن المضحك المبكي جدا أن هؤلاء “الأناس” حينما لايأتون – أو لايُؤتَى بهم – ولا يتمكنون من ذلك، وتلفظهم الصناديق بشكل واضح وصريح ولو بشيء من المصداقية والشفافية، يقع ما يقع من البهرجة وتزويق الكلام والتباكي على الديمقراطية واتهام الطرف الآخر بتهديد السلم الاجتماعي أو الارتباط بأجندة خارجية، إلى غير ذلك مما توظفه وسائل الإعلام هنا أو هناك في بقاع المعمور.

إنها  “اللعبة الديمقراطية” بإفرازاتها المتعددة التي يمكن أن تلَقِّن دروسا للخبير المتعمق المتتبع، وللمبتدئ الذي لم يخبر الأمور ولم يجربها بشكل دقيق.

لست سياسيا، ولا أحب الدخول في متاهاتها، وإن كنت أتابع الأحداث هنا وهناك كما يفعل جل أبناء هذا البلد الغالي.

ولذلك فمن طريف ما لفَتَ انتباهي ماحدث مؤخرا في أفغانستان، حيث ذكرت وسائل الإعلام أن الرئيس السابق لأفغانستان هو أول رئيس يخرج من قصر الرئاسة بمحض إرادته، بعد أن فاز من فاز في الانتخابات التي جرت هناك مؤخرا، خرج بمحض إرادته دون أن يوقع اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة، وهي التي وقعها الرئيس الجديد بعد توليه السلطة.

وإن كانت مغادرة الرئيس المذكور قصر الرئاسة طوعيا، فإن مجيئه إليه لأول مرة لم يكن كذلك. ذلك المجيء الذي يذكرني بما قاله آنذاك أحد زعماء السلطة الفلسطينية وهو يتحدث على الهواء مباشرة في حديث عن وطنية رجال السلطة وإخلاصهم لوطنهم فكان أن قال ما معناه: “لن تجد في رجال السلطة الفلسطينية “كرزاي” واحدا “؛ ويقصد لن تجد فيهم خائنا واحدا، وذلك لمزاً ونبزاً للطريقة التي وصل بها كرزاي إلى السلطة في أفغانستان لأول مرة.

لكن التاريخ كشف عن خبايا ربما لم تكن تدور في رأس ذلك الزعيم الفلسطيني وهو يتحدث، فلقد أبعدت السلطة عن دائرتها من أبعدت بتهمة الخيانة، وبقي من بقي هناك لا يتزحزح، دون أن يقيم لقيم الديمقراطية أي وزن، وبقيت معهم القضية الفلسطينية كما هي الأخرى لا تتزحزح، و أثبت كرزاي قدْرا كبيرا من وطنيته و إيمانه بالديمقراطية بعد أن غادر القصر الرئاسي ليس كما دخله، دون أن يغير دستورا أو قانونا يسمح له بولاية جديدة، ودون أن يحرك شرائح من شعبه أو قبيلته أو حزبه للمطالبة ببقائه رئيسا مدى الحياة، ودون ودون… و أكثر من ذلك دون أن يوقع الاتفاقية الأمنية، وكأنه أراد ألا يتحمل وزرها وتبعاتها، إذ يكفيه ماتحمله من أعباء وتبعات وهو رئيس خَبَر دهاليز السياسة ومتاهاتها.

ولذلك أقول من جديد: إنها ” اللعبة الديمقراطية ” بكل إفرازاتها الوضاءة في أكثر من مكان، ولعل من آخرها حدوثا انتخابات تركيا والاستفتاء حول استقلال اسكتلندا، في مقابل إفرازاتها المظلمة التي تحدث في أكثر من مكان في العالم وفي مقدمته منطقتنا العربية والإسلامية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>