شؤون صغيرة


يلتقطها د. حسن الأمراني

حد يــثــان:

يقول تعالى: وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. وفي حديث رسول الله ، عن اللذين مر بهما وهما يعذبان في القبر: «وما يعذبان في كبير، بل كبير». ومن هذا المعنى غرف الأدباء والشعراء، فقال شاعر معاصر:

شؤون صغيرة

تمر بها أنت دون التفات

تساوي لدي حياتي

جميع حياتي.

وكم نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الأشياء والمواقف، بحيث نضعها موضعها الذي ينبغي أن توضع فيه، فلا نستصغر الكبير ولا نستعظم الحقير. وقد نغفل عن أشياء هي من صميم وجودنا ومن صلب حضارتنا، ثم لا نعود للالتفات إليها إلا إذا نبهنا إليها غيرنا. وليس معنى ذلك أننا لا نعرفها، بل نحن نعرفها ونحفظ نصوصها، وربما استشهدنا بها في بعض المواقف، ولكن لأننا لا نطبقها فكأننا صرنا غرباء عنها وصارت هي غريبة عنا.

إلى عهد قريب حملت إلينا الأنباء أنه في أستراليا ظهر إعلان عام في الساحات مكتوب عليه:

لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار. التوقيع: محمد رسول الله.

أليس هذا بعض ما يمكن أن نفهمه من قول الله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. وآيات الله كثيرة، منها المسطور، ومنها المنظور. ومن المسطور كتاب الله تعالى وحديث رسول الله . وكم في الحديث النبوي من آيات صار المسلمون يمرون بها وهم عنها غافلون. فها هي دولة غير مسلمة تسترشد بحديث لرسول الله من أجل توعية مواطنيها بأهمية الاقتصاد في الماء والنهي عن الإسراف فيه. فهل وعينا نحن الدرس؟ أم أننا ـــ كما قال الشاعر ــ :

كالعيس في البيداء يقتلها الظما      ***       والماء فوق ظهورها محمول

كم من الأزمات تنفرج، وكم من المشاكل تُحلّ، وكم من المآسي ترفع، لو أنا وعينا حديث رسول الله هذا وعملنا به؟ أليس قيل : إن الحرب القادمة هي حرب مياه لا حرب نفط؟ أوليس الماء سلاحا من الأسلحة التي تستعملها إسرائيل ضد الدول العربية المجاورة لها، فتجعلها تستخذي وتستجدي خانعة ذليلة؟ ولنبق في وطننا.. كم من المشاكل كانت ستحل لو وعى المواطن أهمية عدم الإسراف في الماء؟ كم كنا سنقتصد من الطاقات؟ وهل كان المواطن في البادية وما يسمى العالم القروي سيعاني ما يعاني لو التزمنا بروح الحديث النبوي؟ ولماذا يكون الماء عندنا أغلى من دول لا تملك موارد المياه؟ إن دول الخليج تقول: (لو كلفنا الماء ما يكلفنا النفط لكنا من الفائزين)، ذلك بأن تحلية مياه البحر تكلف أكثر مما يكلف استخراج النفط. ومع ذلك نجد زجاجة الماء المعدني عندنا تكلف ــ على الأقل ـ ضعف ما تكلفه في دول الخليج. هذا ونحن دولة غنية بالعيون والآبار، ولا نحتاج إلى تحلية مياه البحر.

التوجيهات الرسمية التي تدعو إلى الاقتصاد في الماء كثيرة، ومحمودة، ولكن علينا ــ بالإضافة إلى ذلك ــ أن نوقظ في نفوس الناس إحساسا آخر، وهو الشعور الديني، حتى يحس المواطن أنه عندما يقتصد في استعمال الماء يتقرب بذلك إلى الله تعالى. وأن ثواب الآخرة مرتبط بالفعل الإنساني الدنيوي، المقترن بخدمة الناس. فالمرء إذ يقتصد في الماء يكون قد ساعد أخاه المسلم في توفير قطرة ماء قد يتوقف عليه نظام حياته.

وفي ألمانيا وقع حدث مماثل، إذ ظهرت حافلات عليها لافتة تقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة: محمد رسول الله). هكذا..حافلات تطوف في الشوارع وهي تحمل هذا الحديث لمعالجة ظاهرة التجهم التي تسود المجتمع..التجهم الذي يدل على القطيعة، وعلى استغناء كل فرد بهمومه الخاصة، وكأنه يعيش بمفرده وإن كان يعيش مع الناس.. شعور يجسده قول شاعر يتحدث عن مدينة بلا قلب:

هذا الزحام…لا أحد.

وقديما قال دعبل الخزاعي:

إني لأفتح عيني حين أفتحها     ***       على كثير ولكن لا أرى أحدا

حديث رسول الله حديث ثمين عظيم، لو طبقناه لشاعت المحبة بين الناس، ولو شاعت المحبة لزالت البغضاء ومظاهرها المتعددة من مجتمعنا.. ولكن لأننا ولينا وتولينا، صار المرء إذا تبسم في وجه أخيه ينظر إليه بريبة، وربما سأله: (أتعرفني؟) مستنكرا. كما أنه إذا سلم على من لا يعرف، كما أمر رسول الله ، فكأنه جاء بشيء مستغرب.

التبسم في وجه أخيك دلالة اللين والرحمة، وما يشهده العالم الإسلامي من مظاهر الكراهية، المتمثلة في التصرفات النفسية والجسدية التي يبرأ منها الله ورسوله، هي نتيجة لغياب مظاهراللين والرحمة التي من أجلى صورها التبسم في وجه أخيك.

فهل ننتظر أن يعلمنا البعداء ديننا؟

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>