أيـســر الـقـواعـــد لـبـلـــوغ أنـبــل المـقـاصـــد


n 425 6

تحدثنا في العدد الماضي عن ما يمليه موسم رمضان من مواصلة إتقان، وبينا ما يعقب آيات الصيام في الخطاب الموجه للمؤمنين من ضوابط وأركان، وتساءلنا في الختام أن قائلا قد يقول إن الكلام عن هذه الأركان هو نوع من الكلام العام، وأن الاستراتيجية على كونها فنونا هي في نفس الوقت برامج عمل، فكيف ننزل تلك الفنون على أرض الواقع؟

ووعدنا بأن نختصر القول في ذلك عبر الحديث عن بعض القواعد الهامة التي نراها لازمة وضرورية لبيان محددات تلك الاستراتيجية الرمضانية وكيفية إنزالها سلوكا ومنهجا على أرض الواقع، نعرضها بتفصيل قاعدة قاعدة، ونبدأ بتوفيق الله في هذا العدد بتفصيل القاعدة الاستراتيجية الأولى.

القاعـدة الأولى : العناية القصوى هي للحق وأصواته ولا تهويل لا من ضخامة حجم الباطل، ولا من تكاثر أبواقه :

يقول الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ. وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (الأنبياء : 11 –20).

فلا يزال الباطل يتسع مجاله بغياب الحق عبر فعل أهله حتى انطفاء آخر جذوة للحق أو ضعفها، فإذا حصل ذلك حل العذاب بأهل الباطل وأبدل القوم بقوم آخرين. فيرمي الله بالحق على الباطل «فيدمغه» ويقهره ويهلكه، فإذا هو زاهق فار مول للدبر.

وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ. ذلك أن الباطل لا يزول بالتفاوض معه، ولا بالتطبيع مع أصحابه، ولا بالاكتفاء بالنظر إليه بوجه عبوس. بل مزهق الباطل الحق، فالقوة دائما مع الحق، لا يؤثر فيها حجم الباطل وشكله بشيء، ولهذا لزم الاهتمام بالحق وأصواته ومنابره وأدواته دون غيره.

والمراد بالحق في الآية الوحي المعصوم كتابا وسنة، وما يدعو إليه من أخلاق ومعاملات وعبادات وتقوى والتزام ونهج للصراط المستقيم، وما يقدمه من حجج، وما يجليه عبر وحيه من سنن وبراهين. والباطل الشيطان وما مكـّن منه من لدن الله عز وجل من تزيين ووسوسة وتخويف وتضليل، وما يدلي به هو وقبيله من شبه، وما يقومون به من مكر، وما يأمرون به من منكر، وما يفترونه على الله وعلى أهل الحق من الكذب والبهتان.

والآية تشير بوضوح إلى أننا لسنا ملزمين باللحاق بالباطل حتى نمسك به، ولا أن نستغرق الجهد ملاحقة له، بل نقذفه بالحق بعون الله فيدمغه فإذا هو زاهق. وزهوقه لا يعني القضاء عليه بالمرة، وإنما المتحقق استحالة رجوعه ما دام للحق الدامغ وجود. هذه السنة ـ التي لن نجد لها تبديلا ولا تحويلا ـ تفرض علينا صرف العناية أساسا لتوطيد وتقوية الحق، ونصرة أهل الحق، والاستثمار العلمي والعملي في دوام حضور الحق، ذلك أن ضعفه مؤذن بعودة الباطل. فالثبات على الحق والدفاع عنه واستمرارية وجوده هو الأساس، أما أن نفرط في شروط بقاء الحق سائدا، وننشغل بكيفية احتلال الباطل للمواقع بغياب الحق، فذلك جانب من الباطل غير هين.

فالنهي عن المنكر لا يقتضي صب العناية جهة هذا المنكر استغراقا للجهد في وصفه، ولا تقعيد النفس بالتهويل من فعله. لأن النهي عن المنكر هو في حد ذاته حق ومعروف، وفعلنا يلزم أن يتجلى دائما في دائرة الحق والمعروف، واهتمامنا ينبغي أن ينصب جهة سيادة الحق وتوسيع دائرة المعروف، بالحفاظ على شروط بقاء المنجز من أركان قيام تلك السيادة وسعة تلك الدائرة، والبحث عن الاستجابة لشروط بقائها ونمو أثرها في سلوك الفرد والجماعة ومؤسسات المجتمع.

فلو أن شارعا من شوارع المدينة به مائة مصباح موزعة بين اليمين والشمال، معطل جلها لغياب الصيانة وعدم العناية إلا مصباحان أو ثلاثة، وجاء المكلفون بالإصلاح يهولون من فعل الظلمة، ويكثرون وصف الهول من اشتدادها وانتشارها، والناس يرددون معهم يا هولنا قد قوي الظلام، ويا ويلتنا كم اشتدت العتمة، … ألا يكون هذا من قبيل سخرية بعضهم من بعض؟ هل الشرعة المثلى والمنهج السليم في إصلاح المصابيح أم سب الظلام ووصف قبحه وتهويل مفعوله؟

فكذلك ما نحن فيه من واقع محزن، إذ الكثير منا يردد أنه قد استفحل المنكر، دون أن يدرك أن الذي استفحل واشتد حتى أضحى مرضا مزمنا هو قلة المعروف وتقاعس أصوات الحق. وكثيرا منا يردد أن واقعنا وعصرنا قد عمت به البلوى، وكثرت فيه أصوات الشيطان، وعم فيه المنكر كافة المعمور، ناسيا أو متناسيا أن الذي ضعف أو غاب هو صوت الحق ورجال الحق. فنحن لا نقبل عذرا ممن يصرخ حين الظلمة أن لا سبيل للنور في وجه الحجم الكبير من الظلام، ولكن نتساءل معه لم انعدمت مشكاة النور ومصابيح الضياء؟ لعلمنا الفطري أن غياب النور هو عين الظلمة.

وأصل الداء أن فئات واسعة من الناس آمنت على جهل وقلة وعي بأن القيام بأعباء الأمر بالمعروف فرض كفاية، وما دامت هنالك أجهزة للشؤون الدينية وأخرى للشؤون الاجتماعية والإدارية والقضائية والأمنية مفروض فيها القيام بتلك الأعباء، فلا مسؤولية عليهم. وهذا قول لا يبرئنا أمام الله عز وجل، لأن بقاء الحق والعناية بأهله وأصواته واجب يتجند له الجميع، كل حسب مسؤولياته. فكون المسؤوليات متعددة لا يعني انتفاءها عن أهلها أو تخلي البعض عن واجباتهم التي يرونها صغرى أو غير ذات جدوى بدعوى عظم وجسامة مسؤوليات آخرين فوقهم في السلطة وتدبير ولاية الأمر.

فالله عز وجل يقول : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم:41)، أي ظهرت المعاصي في بر الأرض وبحرها بما كسبت أيدي الناس واقترافها ما نهى الله عنه، وانتشار المنكر بسكوت أهل الحق وغياب فعلهم. فهذا هو مآل الكون إذا ما ضيع الحق وسكت أهله، أو أسكتوا واكتفوا بلغو يهول الباطل ويتفنن في وصف كيفية فتكه بالعقول والنفوس، ويشرح مع التدوين احتلاله للمواقع، بل أمثلهم طريقة يرى من الأولوية أن يبكي وينتحب لغياب الحق ويشفق على حاله.

يقول الله عز وجل وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ. وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(الأعراف  : 96).

ويقول سبحانه : ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة. وكثير منهم ساء ما يعملون(المائدة : 65 – 66).

وكلمة ولـــــو أن تشير في الآيتين معا إلى مستقبل ممكن ومحقق بإذن الله ومشيئته لو استجيب لشروطه، لكنه مستقبل مفقود بضياع تلك الاستجابة وفسح المجال تهاونا وضعفا وكسلا للباطل. فالباطل لا يقنع بجزء من الذات، ولا بركن من الكون، فهو بطبعه لا يزهقه إلا الحق، ولا يمكن بأي حال التفاوض مع أهله ـ وعلى رأسهم إبليس ـ بأن لا يتجاوزوا نسبة مئوية معينة، فهو من سنته التي أنشأه الله عليها لا يقف حتى يعم البر والبحر، فلا يدع مكانا إلا احتله، ولا مجالا إلا سكنه، مثله مثل الظلمة، إذا غاب النور اكتسحت كل شيء، بل غياب النور كما قلنا هو عين الظلمة. أما الانشغال بحركة تلك العتمة وعد المساحات التي احتلتها، وتقدير سرعة حركتها، فذلك كله لا يغير من فعلها ونموها في غياب الحق أو ضعف أهله عن الدمغ به للباطل شيئا.

وهذا لا يعني عدم السعي لإبطال شبهات الكفار ودفع أباطيلهم، بل هي من الواجب، فقد أبطل الله في القرآن جميع ما احتج به الكفار من حجج لما هم عليه من الباطل والشرك والضلال، ورد الله على مزاعمهم وضلالهم وشبههم وتأويلاتهم. لكن هذا العمل هو جزء من فعل الحق، مصاحب لعمل آخر هو توطيد أصوات الحق، وتوسيع دائرة فعله، والإكثار من منابره.

فليس من المعقول ولا المقبول، لا منطقا ولا منهجا، أن يترك أهل الحق مواقعهم التي هم مطالبون بالذود عنها، فيستهينوا بالإنفاق اللازم لبقائها، والحرية الضرورية من أجل نفع الناس بها، ويكتفوا بالغضب والضيق والحزن لكثرة الباطل ونفوذ أبواقه. فإنهم إذ يفعلون ذلك، يكونو قد أضحوا في حكم العبيد مملوكين لا يقدرون على شيء، لا استطاعة لهم ولا قدرة إلا الإشارة بنوع من الحسرة والتأسي لما يفعله الباطل وأهله.

ولنتمعن في قوله تعالى : فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم(النحل : 74-76).

فنحن مسؤولون عن ضياع فرص تصاغ فيها المستقبلات بتخلينا عن مباشرة الإعداد لمستقبلات هي بأيدينا، ولومنا الآخرين للسبق في غيابنا بصياغة مستقبلاتهم. ووالله إن الباطل لزهوق، وإن كيد الشيطان لضعيف، ولكنها قلة الإيمان بقوة الحق، وضعف الإنفاق في سبيل تقوية منابر الحق وأهل الحق، وغفلة عن المتاح من القدرة والاستطاعة لتفعيل أركان الإستراتيجية التي سبق الحديث عنها.

وأشير في ختام هذه القاعدة الأساسية إلى الاستراتيجية المستوحاة منها والمتجلية في خمس قواعد كل منها بمثابة البرنامج العملي لتمكين نفوذ الدعوة وسيادة متين الشرعة وقويم المنهاج، وكل منها بمثابة القاعدة التي أفردنا لها بحثا مستقلا سنعمل على نشره بمشيئة الله :

إن الراشد من أصوات الحق ينبغي أن يحفظ :

فهناك مدارس قرآنية ينبغي أن تبقى، وهناك جامعات ومؤسسات ومعاهد ومدارس إسلامية ينبغي أن يدوم أثرها، وهناك مقررات وبرامج ومناهج يراد اقتلاعها ينبغي للأمة أن تحافظ عليها، وهناك مساجد ومراكز أسست لذكر الله ورفع كلمة الله والدعوة لدينه ينبغي أن تبقى وتستمر، لأن كل ذلك وغيره من منابر الحق والخير إذا لم يحافظ عليه أهله عطل أو أزيل أو خضع للتغيير في جوهره ليكون شيئا آخر على غير صلة بالحق.

فالراشد من أصوات الحق ينبغي أن يجتهد في بقائه، وبذل الجهد في المحافظة على استمرار حياته ودوام عطائه وفعله، فهناك مشاريع شتى تفعل فعل الخير في الأمة، ومن أجلها يغضب ذلك الباطل ويتحرك بجنوده وجيوشه، هذه كلها يلزم أن تحصن وتصان وتحفظ، والحفظ مشروع استراتيجي قائم بذاته.

وإن القاصر منها ينبغي أن يرشد :

والقاصر من أصوات الحق ينبغي أن يرشد، فهناك مؤسسات خير ومنابر حق لا تحتاج منا إلا للجهد اليسير لتبلغ مستوى الرشد، وتدخل راشدة سليمة الأركان ساحة الفعل من بابها الواسع باطمئنان. والملاحظ أننا كثيرا ما نبذل الجهود الكثيفة حين انطلاق المشاريع، ثم نتقاعس عن استمرار تدفقها بعد تجاوز العقبات الأولى، وخاصة حين دخول تلك المشاريع في عمليات إنجاز المراحل الأخيرة والدقيقة منها، وهذا عيب لا يتغلب عليه إلا أهل الحنكة الاستراتيجية الذين يدركون معنى قوله تعالى : وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران:139)،وأن العبرة منها بعموم لفظها لا بخصوص سببها.

< وأن المعوج منها ينبغي أن يقوم ويسدد:

والمعوج من تلك الأصوات ينبغي أن يقوم ويسدد، لا أن تنسب له العديد من التهم، أو يقصد عمدا إلى التشهير بسوء فعله وشنيع عمله، أو يهمش ويضعف ليتمكن الآخر منه فيزيله أو يغيب أثره؛ فإذا كنا نعرف أن في فكره دخنا، أو أن في منهجه اعوجاجا، عالجنا منه ما يلزم أن يعالج، وتعاملنا معه كجزء منا يلزم تطبيبه وإصلاحه وتقويته ما دامت له صلة بالحق ونصرة الحق؛ ذلك أنه إن ترك لحاله ضل أو هوى، سيشتد ضعفه ويكبر اعوجاجه ليكون سهل الافتراس فيستغل بصورة صوت حق يراد به خدمة الباطل، أو ينقلب على عقبيه ليكون مدخلا من مداخل الفساد.

< وإن المكبل منها ينبغي أن يفك قيده ويساعد :

فالمكبل من أصوات الحق وأنوار الحق يلزم حتميا أن يفك قيده ويساعد، هناك عديد من الأصوات منعت ظلما أو جهلا من أن تجهر بالحق، وتحتاج لأن تساعد على نصرة الحق، وأخرى كبلت بشتى القيود، المادية والمعنوية، ووضعت في وجهها العديد من العقبات،… هذه الأصوات من واجب أصوات الحق الراشدة أن تعمل على مساعدتها لتقوم بدورها ورسالتها على صعيد الأمة.

< وإن الغائب منها ينبغي أن يوجد :

وهناك أصوات غائبة فعلا على مستويات شتى، في العلوم والفنون والثقافة والتربية والإعلام والمعالجات الاجتماعية وغيرها، نحتاج إلى إخراجها للوجود عاجلا لنتمكن من النماء والبقاء.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>